ثقافةصحيفة البعث

 “قطْنا” في استضافة التّاريخ.. رواية من عصر أخناتون فرشة تاريخيّة جغرافيّة

شكّلتْ “قطْنا” مركزاً تجاريّاً وعاصمة لأقوى الممالك السّوريّة. دمّرها الحتيّون في إحدى غزواتهم للمنطقة  بسبب محاولتها الاستقلال بسياسة تخصّها عن نزاعات الكبار. تقع على مسافة “10” كلم شرق مدينة حمص. حضارتها تعود إلى 4000 سنة ماضية. اكتُشفَتْ أثناء التّنقيب الأثري الألماني، بإشراف البروفيسور “بيتر بفلتسنر” الذي استمرّ من 1999م  حتى 2011م. وتوقّفَ بسبب الحرب السّوريّة. عُثر أثناء التّنقيب على رُقمٍ طينيّة بالكتابة المسماريّة، تُلقي الضوء على الأحداث السياسيّة والتّبادل التّجاري لتلك المرحلة، حوالي “1400 ق. م”. هذا الاكتشاف شكّلَ حدثاً أركيولوجيّاً هاماً، بالتزامن مع اكتشاف لفائف “قمران” وقبر “توت عنخ آمون”، و”آخت آتون في تلّ العمارنة / مصر حيث مقرّ حكم “أخناتون”. ظلّتْ “قطْنا” محطّ أطماع القوى العظمى آنذاك / مصر الفرعونيّة، آشور البابليّة، وميتاني فيما بين النّهرين، والحتيّة في آسيا الصّغرى، تركيا/. وغزارة المعطيات المكتشفة فيها: (لُقى أثريّة، كتابات تحمل صبغة السيرة الذاتية، حكايات، كتابات كهنوتيّة، وثائق عادية من الحياة التجاريّة على شكل عقود شراء، فواتير، لوائح طلبيّات، رسائل، نصوص الصلوات، مقاطع من نشيد شمس أخناتون، ابتهالات وأدعية حتّيّة وأناشيد دينيّة من تلّ العمارنة). شكّلتْ مداميك هذه الرواية التاريخيّة الهامّة التي بين يدينا، وأمّا أسماء الأماكن والبلدان والأنهار والبحار والجبال والأغراض والأشخاص، فقد اعتمدتْ التّسميات المتداولة حسب لغة المكان آنذاك.

الكاتبة/ عالمة الآثار

للمفارقة الجميلة أنّ “ماريا كورانت” هو اسم مستعار اتّخذته الكاتبة قبلَ ترجمة روايتها إلى العربيّة، وهي د. “ماريا فيتكِه” عالمة الآثار وخبيرة العصور القديمة التي تعمل مع فريق “بفلتسنر” في بحوث حضارات الأناضول وجيرانها، زارتْ موقع “قطنا” ووجدتْ بين يديها جميع اللّبنات المطلوبة لتشييد عمارتها الأدبيّة من: “أفلام، صور، رُقم طينيّة الخ..”. ولم تبحْ باسمها الحقيقي آنذاك، لأنّ  الجو الأكاديمي ينصّ على الفصل بين العمل العلمي والخيال الأدبي.

المؤلّف/ القارئ/ النّصّ

رسمتْ الكاتبة بحرفيّة، خطوطَ مشروعها الدراميّ الرّوائي، وبذهنها كيفيّة جذب القارئ إلى عوالم القصّ، متفاديةً إيقاعه في مطبّ الإملال، واعيةً بأنّه أحد  طرفي معادلة الإبداع ( قارئ ، متلقّي ) مروراً بالنصّ . حيث نجحتْ في زجّه في اللّعبة الأدبيّة، متفاعلاً، لا منفعلاً وحسب. منذ البداية المبنيّة على مشهديّة الحلم/ النبوءة، التي شكّلتْ بؤرة العمل كلّه، ومنطلق خيوط السّرد، حين تراءتْ  لـ “كيا” أميرة “قطْنَا” رؤيا سوداويّة تتنبّأ بدمار المملكة، حيث الجثث والدمّ يغطّيان تمثال ربّة المدينة “بيليت إكاليم/ عشتار، ويملآن المكان، وعلى سكّة هذه النبوءة سار قطارُ الأحداث التّخييليّة المشوّقة مخترقاً الأزمنة والأمكنة برشاقةٍ، دون تلكؤٍ أو ميل. والشخصّيات عموماً رسمتْ بملامح واقعيّة وتاريخيّة مقنعة. فـ “كيا ” الشخصيّة الرئيسيّة مذكورة ضمن الكتابات المصرية بأنهّا زوجة الفرعون “أخناتون” مازال الجدل قائماً حولها بين علماء الآثار والتاريخ، هل هي أجنبية أم تنتمي إلى العائلة الحاكمة، الثامنة عشرة؟، وبما أنّه لا يوجد دليل بأنّها من مملكة “قطنا” فقد جعلتها الكاتبة أميرة لـها وحصيلة لزواج أمٍّ مصريّة تنتمي إلى العائلة الفرعونيّة المالكة، من ملك “قطنا”. أمّا رحلة الفرعون “أمنحوتب” المفترضة إلى الممالك السّوريّة، حين كان وليّاً للعهد ــ والذي حاول فيما بعد تغيير ديانة الأسلاف “آمون” فتصارع مع كهنة “طيبة” ونقل عاصمة ربّه “تون” إلى “ممفيس” ليبدع طقوسه الجديدة، وليتسمّى بـ “أخناتون”ــ فلم تثبَتْ تاريخيّاً، لذلك افترضتها الكاتبة تخييليّاً ضمن الرواية، مستقيةً معلوماتها من تراث ورسائل “تلّ العمارنة الشهيرة” ومن تراث ثقافات الساحل السوري.

خلطةُ التّاريخي والأدبي الكيميائيّة

إلى أيّ حدٍّ يمكن التّوفيق بين تاريخيّة الرّواية وأدبيّتها؟. حقيقة مهما كانت العناصر مستمدّة من الواقع المعيش أو التاريخي: “تواريخ حقيقيّة، أو أسماء معروفة تشبه شخصيّات الواقع، أو أماكن أثرية أو جغرافية معروفة الخ..” فإنّ العمل الأدبي، أولاً وأخيراً هو عمل تخييليّ مفترض ومتصوّر، وهو ليس عملاً  تاريخيّاً بهذا المعنى، وتلك مهمّة المؤرّخ لا الأديب، وتشابه العمل الأدبي مع الواقع، أو التاريخ لن يعطينا عملاً أدبيّاً حقيقيّاً إذا لم تتمكّن خلطته الكيميائيّة من تحقيق مقاديرها الفنيّة والأدبيّة بشكلٍ سليم، وقدرة الروائيّة تجلّتْ بارزة في مسكها الدقيق بخيوط السّرد والوصف الكثيرة، المتقاطعة والمتوازية بقوّة، ومهارة إقناعيّة عالية، اعتمدتْ التّشويق، وخلق بؤر توتّر وفجوات وسائل لها في إقلاق ذائقة المتلقّي وكسر توقّعاته، ما ساهم بمنع ترهّل الحكي وكسر رتابة القصّ. حيث كلّما كادت الأحداث السرديّة والوصفيّة تغرق القارئ في متاهتها موهمةً إيّاه بنهاية قفلتها السردية، يأتي حدث طارئ ويشعل الجمرة ثانية، لتتناسل الأحداث من جديد، معيدةً للمتلقّي بهاء المتابعة بمتعةٍ أكثر، وتحريضه على المتابعة حتى النهاية، فتقنيّتا الـ “المونولوج، كحوار داخلي والـ “الديالوج، كحوار خارجي” حقّقتا التّوازن السردي الفنّي بشكلٍ جميل، والزمن السيكولوجي سار برشاقةٍ مع الزمن الكرونولوجي الأفقي، مطعّماً ببهارات الخطف خلفاً السينمائيّة التي كسرتْ تراتبيّة الأحداث وغذّتها بالمفاجآت الدائمة، ولم تعرقلْ غرابة أسماء الأماكن أو الأشخاص عملية التلقّي، بل رأينا أنّ الشخصيات كانت تتحرّك بحريّة في فضاءات السّرد التاريخي، كمن تتحرّك ضمن فضاءاتٍ عصريّة مألوفة، دون فقدانها لتاريخيّتها، وتلك مهارة إضافيّة تحسب للكاتبة. أمّا الذي زاد الرواية الممتدّة على حوالي “600” صفحة من القطع الكبير متعةً وجمالاً والتي “نشرتها دار ممدوح عدوان بالتعاون مع دار أطلس البيروتية عام 2017م ولوحة غلاف وتصميم مناف عزّام” هو قدرة مترجمها العالية ــ  د. نبيل الحفارــ على نقل روح الرواية الأدبيّة التّاريخيّة من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية ببهاء وجمال عاليين.

أوس أحمد أسعد