رأيصحيفة البعث

“عالم خال من الثقة”

 

بالنسبة لنا، في هذه المنطقة من العالم، ليس أمراً جديداً هذا النفاق الغربي حيال المسائل والمعضلات الدولية المتعدّدة والمتشابكة، ففيما تئن أوروبا وتشتكي، محقّة، من قيام واشنطن بمدّ ولايتها القانونية المحلية خارج حدود سيادتها الوطنية، وتطبيق مفاعليها على دول أخرى، كما في حالة العقوبات على إيران، تقوم هذه الـ “أوروبا” ذاتها، وفي الوقت ذاته،  بالعمل المجرم ذاته عبر تجديد عقوباتها الاقتصادية على الشعب السوري لسنة أخرى خارج إطار القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة.

والحال فإن النفاق هو السمة الطاغية للسياسة الدولية في عصر التفرّد الغربي بقيادة العالم، وهو نتيجة منطقية لمحاولة المواءمة بين فكرتين متناقضتين، أولهما تحقيق المصالح الاستعمارية الطابع لدول الغرب، وثانيهما التمسّك، الشكلي على الأقل، بهياكل مؤسسات دولية لا تسمح قواعدها وقوانينها بهذه المصالح، وبالتالي يصبح النفاق هو الطريق الوحيد للتغلب على هذه العقبة الكأداء، بيد أن ذلك لا يمنع الجميع من رؤية الحقيقة عارية: أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تخرقان القوانين الدولية وشرعة الأمم المتحدة لإركاع الدول واستتباعها وإدامة السيطرة على العالم، وبالتالي، إذا كنا نتفق مع أوروبا في أن ما تمارسه واشنطن هو “بلطجة” علنية ضد الشركات والاقتصاد الأوروبي والعالمي، فإن ما تقوم به أوروبا ضد الشعب السوري هو أيضاً “بلطجة” علنية بامتياز، لا يغطيها الكلام الأوروبي عن “القمع”، فكلنا شاهد كيف ترافق منع الغذاء والدواء عن الشعب السوري مع تعامل شركات أوروبية مثل “لافارج” مع مجموعة مجرمة مثل “داعش” بعلم النظام السياسي الفرنسي، والأوروبي تالياً، وموافقته!!..

وبالطبع لا تعدم كلّ من واشنطن وأوروبا الكلمات والتعابير المنمّقة لتبرير قيامهما بهذه البلطجة، واستخدام “يافطة” حقوق الإنسان، لا يبرر هذه الجرائم الاقتصادية ضد الإنسان ذاته، فتحت يافطة الحرية يتم استعباد الشعوب وارتهان الدول، خاصة لدى دولة كالولايات المتحدة الأمريكية لم تعترف عملياً، طوال تاريخها، بحدود وسيادات أمام مخططها الامبراطوري، مقتفية بذلك آثار الامبراطوريات الأوروبية السابقة التي استخدمت حجة “التمدن” و”مسؤولية الرجل الأبيض” لنهب ثروات العالم القديم، وكانت النتيجة عشرات ملايين القتلى، ومثلهم من المشردين على امتداد هذا العالم.

وإذا كانت سياسة العقوبات “الترامبية” تندرج، كما يقول كاتب عربي، “تحت شعاره الانتخابي أميركا أولاً، وتفرض عودة القومية الاقتصادية بمفرداتها: الحمائية وتقييد التعاملات التجارية بين الدول، وهي وصفة مناسبة لنسف عالم الديموقراطية الليبرالية وحرية التجارة التي أرستها المجموعة الغربية”، فإن سياسة العقوبات الأوروبية تنسف عالم الشرعية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة التي أفرزها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي دفعت أوروبا ذاتها الثمن الأكبر فيها.

بيد أن المفارقة، والنفاق، في تجديد العقوبات الأوروبية على سورية هذه المرة أن تجديد العقوبات الاقتصادية، خارج إطار الشرعية الدولية على الشعب السوري، تزامن مع حديث “ماكرون” وهو أحد قادة أوروبا، عن “شهور سورية حاسمة”، وعن “تشكيل آلية دولية للتنسيق” مع روسيا لحل الأزمة السورية سلمياً، دون أن يسأل نفسه كيف يتفق الحصار الاقتصادي اللاشرعي مع السعي لانتخابات ودستور، وما إلى ذلك من إجراءات يفترضها الحل السلمي والشرعية الدولية، بل كيف يمكن التحدّث والتحذير من انعكاسات جيوسياسية وجيواستراتيجية خطيرة للبلطجة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، والشركات الأوروبية ضمناً، دون الحديث والتحذير من انعكاسات مجرمة للبلطجة الأوروبية على حياة شعب سورية، وهما معاً سيفرزان، وقد أفرزا مآسي ومشاكل وموجات لاجئين جديدة تطاول، أولاً، أوروبا ذاتها الغارقة في مشكلة لاجئين سابقة لم تخرج منها بعد!.

نهاية القول: إنه “عالم خال من الثقة”، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإذا كانت الثقة الأوروبية بواشنطن تتقلص، كما يقول مستشار النمسا، فإننا لا نثق بالطرفين معاً، لأن تجربتنا، وتجربة بقية دول العالم، معهما، تقول بأنه كلما أعلنت واشنطن أو أوروبا عن اهتمامهما بحقوق الإنسان في بلد ما، فعلى هذا الإنسان، وهذا البلد، السلام.

احمد حسن