دراساتصحيفة البعث

جبهات الحرب الاقتصادية الثلاث

ترجمة وإعداد: هيفاء علي
تشهد الساحة العالمية هذه الأيام أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي بين أعظم قوتين اقتصاديتين في العالم على خلفية قرار ترامب رفع الرسوم الجمركية على الصلب، والردّ الصيني على الإجراءات الأمريكية.
الحقيقة أن نيران هذه الحرب أُضرمت مسبقاً على الجبهة الصناعية ومن شأنها أن تتفاقم، وثمة احتمال ضعيف أن تُضرم على الصعيد المالي. وفي حال زاد الوضع حدة وتدهوراً، فمن شأن هذه الحرب الاقتصادية أن يكون لها تبعات كارثية مشابهة لتداعيات أزمة عام 2008، وقد تكلف القوتين الاقتصاديتين خسارة 4 نقاط من الناتج الإجمالي المحلي، ونقاط أكثر للاتحاد الأوربي ولباقي آسيا التي تعيق فيها هذه الحرب وظيفة السلاسل الشاملة للقيمة.
في تقرير صدر عام 2017 حدّد مكتب الأمن القومي الأمريكي منافسته الصين كـ”عدو استراتيجي” للولايات المتحدة كما روسيا تماماً، فكانت تلك بداية الهجوم الأمريكي. بعد ستة أشهر، نشر موقع البيت الأبيض وثيقة تشجب الممارسات الصينية الرامية للحصول على التكنولوجيا، ما أشار إلى انتصار الصقور وعلى رأسهم بيتر نافارو، بروفسور سابق في جامعة كاليفورنيا ومؤلف كتاب
“الموت الصيني”.

الجبهة التجارية:
بلغت المبادلات الصينية– الأمريكية للبضائع “620” مليار دولار في عام 2017، مقابل عجز أمريكي بلغ “384” مليار دولار. وهناك تحليلات اقتصادية تقول إنه بعد أن يتمّ تعويضه من خلال الفائض الناتج عن مبادلات الخدمات “38” مليار دولار، سوف يرتفع أكثر في حال لم تحرم ممارسات تحقيق المثالية الضريبية للشركات الأمريكية.
العلاقات التجارية لن تتقلص إلى الدفق الذي يتجاوز الحدود، وإنما تتضمن فعالية ونشاط الشركات الأصلية البنيوية. مبيعات الفروع الأمريكية في الصين “272 مليار دولار” تفوق مبلغ الصادرات الأمريكية إلى الصين بضعفين. وعلى العكس، أرباح وعائدات الفروع الصينية في الولايات المتحدة ضعيفة “10مليارات دولار”. ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه المبيعات، فقد أظهر “دوتش بنك” أن عجز “المبادلات الملحقة” الصينية-الأمريكية انخفضت من “111” ملياراً عام 2008 إلى “30” مليار دولار عام 2016، بينما ارتفع العجز التجاري من “271” مليار دولار عام 2008 إلى
“384” مليار دولار عام 2017.
إعادة التوازن جارية على قدم وساق، وكذلك الوعود التي قطعتها الصين عقب بلبلة “ذي إت” لم تهدئ روع ترامب ومستشاريه، فالبيت الأبيض يلاحق أهدافاً أخرى منها:
الهدف الأول: قبل بضعة أشهر من موعد الانتخابات النصفية، يريد ترامب إظهار أنه يفي بوعوده الانتخابية. واستأنف التقاليد المعهودة منذ رئاسة ريغان إلى رئاسة أوباما، مروراً بـ جورج دبليو بوش، المتمثلة برفع الرسوم الجمركية على الصلب. الفرق أن الصين مموّل ثانوي للولايات المتحدة، وأن ترامب أثار موضوع الأمن القومي لتفادي التصويت في الكونغرس. هذا الارتفاع لاقى انتقاد صناعة السيارات واستهجانها، فما كان من الملياردير إلا الرد واتخاذ إجراءات ضد واردات السيارات الألمانية التي كان يشجب وجودها في أعوام الثمانينات باسم الأمن القومي!.
الهدف الثاني: أعدّ مستشارو ترامب، الذين يريدون عرقلة صعود الصناعة الصينية المتسارع، ضربات “جراحية” بفرض زيادات على الرسوم الجمركية على المنتجات المستهدفة من قبل خطة “تصنيع الصين 2025”. القائمة الأولى التي تضم 818 منتجاً، أي ما قيمته 34 مليار دولار، تم فرض رسوم إضافية عليها بنسبة 25% منذ 6 تموز. أما القائمة الثانية فقد تم إعدادها عقب التحقيق الذي تم في إطار المرسوم 301 المتضمن 284 منتجاً لم يقرر بعد مستوى الزيادة لها. كل ذلك لن يتم من دون مخاطر، ذلك أنه جراء تداخل وتشابك الاقتصاديات، فإن أي زيادة للرسوم الجمركية على المنتجات الصينية “صنع في الصين” سيجعل تكلفة المنتجات المصنّعة في الولايات المتحدة أكثر تكلفةً ما سيولّد تبعات على القدرة الشرائية للأسر الأمريكية
وعلى القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية.

الجبهة الصناعية:
هدف صقور البيت الأبيض على الجبهة الصناعية يمضي أبعد من كونه إجراء عقابياً، ويرمي إلى عرقلة وكبح التقدم الصيني بإعاقة عمليات نقل التكنولوجيا التي تتمّ عبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو الصين أو من الصين باتجاه الولايات المتحدة. يقود هذا الخيار إلى تغيير جذري إزاء العولمة. وتجدر الإشارة إلى أن الصين هي إحدى البلدان المضيفة الأولى للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأن هذه الأخيرة تمثل مساهمة كبيرة في تكنولوجيات صناعتها.
لطالما حلمت السوق الصينية وبكين بالعملات مقابل الحصول على التكنولوجيا.. ولطالما كان الاستثمار الأجنبي في الصين مربحاً بما فيه الكفاية لكي توافق الشركات على بيع تكنولوجياتها. هذه هي الحال على الأقل في السنوات الأخيرة والشركات الأجنبية هي أكثر تردداً في الترسخ. أحد أهداف تخفيض ضرائب الشركات هو الحدّ من الاستثمارات الأمريكية في الصين، حيث أفادت نتائج مسح الغرفة التجارية الأمريكية -كانون الأول 2016- أن هناك ست شركات من أصل عشرٍ تخطط للانسحاب.
أما بالنسبة للشركات الصينية، إذا استثمرت في الخارج، فذلك للحصول على الموارد والتقنيات، فقد استثمرت بين عامي 2014 و2016 في الولايات المتحدة أكثر من الشركات الأمريكية المستثمرة في الصين. وبعد الارتفاع الذي حصل عام 2016، انخفض الاستثمار في أمريكا في عام 2017 بسبب القيود التي فرضتها حكومة بكين، التي تشعر بالقلق من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
انهارت هذه الاستثمارات في النصف الأول من عام 2018، مع انخفاض قدره
92٪ في القيمة، وفسّر خبراء الاقتصاد هذا التراجع بتدهور العلاقات الثنائية وتقوية لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة. من بين القرارات التاريخية، استخدمت واشنطن حق النقض “الفيتو” لشراء شركة “كولكوم”. وفي عام 2017 باعت شركة “جنرال موتورز” السيارات في الصين أكثر مما باعته الولايات المتحدة. بالنسبة للعديد من الشركات الأمريكية الكبيرة، فإن تطور السوق الصينية يعدّ تحدياً أكبر من تحدي السوق الأمريكية، وعليه يمكن للشركات السبع والسبعين التابعة للولايات المتحدة أن تصبح رهينة لحرب اقتصادية إذا ما جعلت بكين حياتها أكثر صعوبة، إذ تشير العديد من القصص إلى أنها ستواجه المزيد من الصعوبات، وفتح هذه الجبهة التي ستؤثر على الاقتصاد الأمريكي أكثر من زيادة الرسوم، سيكون سلاحاً ذا حدين، وقد يتسبّب بحدوث انخفاض أكبر في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

الجبهة المالية:
في صراعها مع الولايات المتحدة، لدى الصين سلاحان آخران تحت تصرفها: تعادل اليوان، ومصادقة الخزانة الأمريكية عليه. ابتداءً من عام 2005 ، بدأت الحكومة الصينية رفع قيمة عملتها لتشجيع الشركات على الارتقاء إلى مستوى أعلى. وبعد توقفها بسبب الأزمة العالمية، استؤنفت هذه الحركة حتى عام 2013، وبعد عدة أشهر من الانخفاض ارتفعت مرة أخرى. في الشهرين الماضيين، كانت وتيرة انخفاض اليوان هي الأقوى.  هل ستقوم بتخفيض قيمة عملتها لتعويض الزيادة في التعريفات على هذه الصادرات؟ لقد اتخذ البنك المركزي إجراءات للحدّ من هذا الانخفاض الذي قد يكون نتيجة لهروب رؤوس الأموال. ولهذا فإن استخدام سلاح العملة سيكون خياراً خطيراً بسبب تأثيره على التضخم في الصين، وهو ما يشكل كارثة حقيقية للولايات المتحدة.
في كل الأحوال، تبقى الصين أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة، مع ما يزيد على تريليون دولار في أيار 2018. فهل يمكن أن تستخدم بكين هذا السلاح ضد واشنطن؟، خاصة وأن هيلاري كلينتون أشارت في ذكرياتها عن زيارتها إلى بكين بوصفها وزيرة للخارجية آنذاك “إنه كان من الصعب عليها الوقوف بحزم مع ممولها”. كلماتها لا ينبغي أن تكون مضللة، ذلك أن قيام الصين بتكديس سندات الخزانة الصينية لا يمنحها أي تأثير على إدارة الاقتصاد الأمريكي، كما أن  بكين لا تمتلك سوى 5٪ فقط من الدين العام الأمريكي “21 تريليون دولار”، والتي زادت إلى أكثر من 70٪ من قبل المؤسسات الفيدرالية الأمريكية، بما في ذلك الضمان الاجتماعي، ولكن أيضاً من قبل بنوكها، أعمالها وأسرها. جراء غياب البديل، إذ تعدّ سوق سندات الخزانة الأمريكية الأكثر سيولةً في العالم. وعندما تقوم السلطات الصينية ببيع سلة المستندات فإنها تتسبّب في انخفاض القيمة التي لن تدخرها دون إلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي.

إستراتيجية خاسر- خاسر:
الحرب الاقتصادية المندلعة اليوم تتعقب أهدافاً عدة باستحقاقات مختلفة: شهر تشرين الثاني للانتخابات، وبداية 2019 للعجز الثنائي. فإذا كان هذا الأخير نتيجة لتنظيم سلاسل القيمة بين القوتين العظميين، فإنه أيضاً حساس لمفاضلات الصين من أجل مشترياتها من المواد الأولية. وبالنسبة لعجز الحساب الجاري الأمريكي الذي يريد ترامب استيعابه، فهو ليس نتيجة لسياسات التجارة الصينية أو الألمانية، وإنما يعاقب حقيقة أن الأمريكيين يعيشون خارج نطاق إمكانياتهم.
لقد خلق “ضجيج التمهيد” في الأشهر الأخيرة مناخاً من التوتر والحذر حتى قبل إطلاق أول لعبة، كانت النتائج واضحة بالفعل على تطور مؤشر “داو جونز” و”هانغ سنغ”، كما في الاقتصاد الحقيقي. ويؤثر انخفاض أسعار فول الصويا في الربع الأول منذ نيسان على 300 ألف من المنتجين الأمريكيين ورسائل الطلبات إلى المصدّرين الصينيين، وهو يغطي 10٪ من واردات الولايات المتحدة من الصين. وطبقاً لـ”سي بي”، سوف يتسبّب في انخفاض الصادرات الصينية بنحو 25 مليار دولار. سيكون التأثير متواضعاً وسيؤثر بشكل أكبر على الاقتصاد الصيني الذي يتباطأ أكثر من الاقتصاد الأمريكي الذي عزّزته تخفيضات الميزانية. لن ترد أي دولة على الإجراءات الأمريكية، وعلى الرغم من هذه الادعاءات، فإن الصين -التي قالت أيضاً بأنها لن تتقيّد بالحظر المفروض على إيران– ستردّ بزيادة الرسوم الجمركية على الواردات القادمة من الدوائر الانتخابية الأمريكية التي صوّتت لصالح دونالد ترامب. فهل سيحث هذا الرد ترامب على إطلاق المرحلة الثانية من هجومه عبر مطالبة وزارة التجارة بفرض زيادة بنسبة 10٪؟.. وهل سيصل إلى 500 مليار، كما أعلن؟ سيشمل النزاع ما يعادل 4 نقاط من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، إضافة إلى تأثير الإجراءات التي اتخذتها كندا ومن قبل الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف.
وحسب أحد التقديرات الصادرة عن مجلس التحليل الاقتصادي، فإن التأثير الكلي “التراكمي” للحرب اقتصادية يقترب من أزمة عام 2008 وسيكون 4 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لطرفي النزاع، أكثر من ذلك بقليل إلى الاتحاد الأوروبي وربما بالنسبة لباقي آسيا لأن هذا الصراع من شأنه أن يقوّض أداء سلاسل القيمة العالمية.
يجب أن يعمل هذا الهجوم الأمريكي على تسريع تطبيق خطة “التصنيع الصيني 2025” بدلاً من إبطائها وعرقلتها. خطة في خط نظر الحكومة الأمريكية والتي لم تعد وسائل الإعلام الصينية تشير إليها في الأسابيع الأخيرة كي لا تثير غضبها. في آذار، كشفت قضية “ذي إت” عن اعتماد الصين التكنولوجي على أنصاف النواقل. كما عززت عزم الصين على توحيد هذه الصناعة. أعلن “جاك ما”، الرئيس التنفيذي لشركة “علي بابا” عن إنشاء قسم للبحث والتطوير مخصص للرقاقات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي. وفي هذا المجال المهمّ، فإن حجم السكان المرتبطين والحماية الضعيفة للبيانات الشخصية تعطي ميزة للصين.
في إطلاق حرب اقتصادية باسم “إعادة المجد لأمريكا ثانية” يقوم ترامب بتدمير الهندسة المعمارية للنظام العالمي الذي شيّدته الولايات المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية، ويستبدله بنظام جديد لن يكون لأميركا فيه لا حليف أبدي ولا عدو دائم، بل مصالح فقط، كما كانت عليه المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر. كان من الممكن تصور هذا الأمر في زمن الإمبراطورية البريطانية، ولكن ليس في عالم متعدّد الأقطاب!.