تحقيقاتصحيفة البعث

لتشجيع القراءة الحديقة التبادلية ومكتبة للجميع.. أفكار تنشر الثقافة في المجتمع.. وتعيد للكتاب دوره المعرفي

 

لم تعد الثقافة اليوم حكراً على أحد، فبحوزة الجميع تقريباً أجهزة هواتف ذكية توفر لهم بعد الاتصال بالأنترنت إمكانية الوصول للمعلومة، ومتابعة آخر الأخبار، وقراءة محتويات مختلفة من النصوص، والمعلومات، والأفكار التي تتوارد إلى جوالاتهم تباعاً من مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، أو طرق اتصال أخرى، ولكن هل بمثل هذا النوع من الثقافة مجهولة المصدر يمكن القول إن جيلاً من المثقفين في طريقه إلى التشكّل أو الظهور؟!.. حتى “أبو أحمد” سائق الميكروباص الذي كنا برفقته إلى معرض الكتاب كان متفقاً معنا بالرأي بأنه لا غنى عن الكتاب أو الصحيفة حين نريد البحث عن معلومة أكثر دقة وتفصيلاً ومصداقية، وأكد الرجل كلامه حين أظهر سروره بالصحيفة الرسمية التي قدمناها له قبيل المغادرة قائلاً: “على الأقل يقرأ المرء أخباراً موثوقة، الفيس بوك معظمه إشاعات”، ورغم الحديث بكثرة عن حالة تراجع كبيرة يشهدها الكتاب اليوم، إلا أن الواقع على الأرض يظهر أن الأمل موجود، فمازال للقراءة جمهورها، ومازال للكتاب محبوه.
تبادل معرفي
وقبل الحديث عن معرض الكتاب المقام حالياً الذي افتتح قبل يومين، يمكن العودة لأفكار سابقاً ظهرت في السنة الأخيرة لتشجع القراءة، وتشجع تبادل الثقافة والمعرفة، فالحديقة التبادلية، ومكتبة للجميع فكرتان ظهرتا في وقت سابق، حيث تنشر “مكتبة للجميع” فكرة التبرع بالكتب، والتبادل الثقافي، والقراءة بين أعضائها، أما الحديقة التبادلية فهي مشروع يهدف لإعادة الثقافة إلى الواجهة، والتشجيع على إطلاق مبادرات مبتكرة تقوم أيضاً على تبادل الكتب، ونشر الثقافة والمعرفة، وتجسّد مقولة ضع كتابك وخذ كتابي تلك الفكرة التي نفذت من قبل فريق إيقاع الحياة بالتعاون مع مديرية تربية دمشق، ومحافظة دمشق، تزرع في عيون الناس منظراً حضارياً، وتشجع على نشر المعرفة والثقافة الفعلية عند الجميع، وربما تكون المؤشر الذي ننتظره لننحو نحو دول متقدمة تعتمد هذه الأفكار، وتعمل على نشر القراءة، فالفكرة التبادلية للكتب موجودة في دول كثيرة، ومجتمعات متقدمة، ومنها رومانيا التي تنتشر فيها فكرة مشابهة في أحد الشوارع التي تمتلئ بكتب عديدة، فتأخذ كتاباً ووردة، وتترك كتاباً آخر ووردة عوضاً عنه، وبمثل تلك الطريقة تنتشر الثقافة والمعرفة والمحبة، فهل بتطبيقنا لأفكار مشابهة نضع أرجلنا على أول الطريق؟!.

مشاركات واعدة
وبالعودة إلى معرض الكتاب الحالي تبدو الأمور مبشرة، خاصة حين نجد مشاركة واسعة من قبل 200 دار نشر محلية وعربية في كتب مختلفة ومتنوعة، تعكس التعطش الحقيقي للمواطن السوري لإثراء معرفته وثقافته، حيث يأتي هذا المعرض، بحسب الدكتور ثائر زين الدين، مدير عام الهيئة العامة السورية للكتاب، في لحظة بدأت الحرب فيها تضع أوزارها، وينتصر فيها الإنسان السوري الذي ذاد عن ترابه الوطني، ووحدة بلاده، واستقلالية قراره وسيادته، وعن مشاركة الهيئة بالمعرض يتحدث د. زين الدين: تشارك الهيئة العامة السورية للكتاب بمعرض الكتاب الحالي بنحو 1400 عنوان، تتضمن إصداراتها منذ عام 2009 وحتى عام 2018، ونرى في جناح الهيئة السورية كتباً تقدم مختلف وجوه المعرفة، بحيث يرى القارئ المحب للأدب الرواية، والمجموعة القصصية، والمجموعة الشعرية، والعمل المسرحي، والكتب المترجمة عن مختلف لغات العالم، والسلاسل الأدبية، والفكرية، والثقافية لمختلف دوريات ومجلات وزارة الثقافة المختلفة التي تبلغ اثنتي عشرة مجلة، كما ضم الجناح في هذا العام الأعمال الفائزة بجائزتي حنا مينا للرواية، وسامي دروبي للترجمة.

ندوات فكرية
وبحسب د. زين الدين فالهيئة راعت في كتبها المعروضة حاجة القارئ السوري في هذه المرحلة، بل القارئ العربي أيضاً، فهناك كتب تعالج وتنتقد الفكر الظلامي، ومختلف أشكال التعصب، وكتب مترجمة تضيء الحالة السورية والعربية خلال ما سمي بالربيع العربي من وجهة نظر موضوعية مستقلة، إلى غير ذلك من الكتب المهمة، لاسيما كتب الأطفال التي تنمي في الطفل محبة الوطن، وقبول الآخر، ومختلف القيم الوطنية النبيلة، وأكمل مدير الهيئة العامة السورية للكتاب: ستكون هناك ندوات في هذا السياق تقيمها الهيئة، وهناك ندوتان فكريتان، الأولى يتم الحديث فيها عن كتاب مهم جداً أصدرته الهيئة بعنوان قتل الديمقراطية، (عمليات المخابرات المركزية الأمريكية والبنتاغون في الفترة ما بعد الحقبة السوفييتية)، ألف هذا الكتاب 22 باحثاً من مختلف دول العالم، وطبعته الهيئة هذا العام، أما الندوة الثانية فتتحدث عن صناعة الكتاب في سورية، ومستجداتها، وتشارك فيها نخبة من الأساتذة.
كنوز منسية
وإذا كان الاهتمام بمعرض الكتاب وغيره من المبادرات على أشده كمحاولة لإعادة إنعاش القراءة عند المواطن السوري، ولكن في المقابل تشهد “بسطات” كتب أخرى في شارع الحلبوني، وهو الشارع الأكثر شهرة في العاصمة دمشق بانتشار الكتب المستعملة، إقبالاً خفيفاً في الغالب بحسب ما تمت ملاحظته، وعلى مقربة من الهيئة العامة للآثار والمتاحف ببداية الشارع نقف أمام إحدى تلك البسطات، حيث يوزع توفيق، الرجل الأربعيني ذو الأصول العراقية، بسطة معارفه وكنوزه بعناية وحرص على الرصيف، ويصنّفها حسب النوع وموضوعات الكتب، لم يعد ذلك الرجل يهتم كثيراً بشأن الغبار المتراكم على بعضها، فالزبائن كما أوضح بتناقص مستمر، لكنه رغم ذلك لا يستطيع التخلي عن المهنة التي عرفها سنوات طويلة، والتي أغنت رصيده العلمي والمعرفي، فمعظم الكتب المعروضة قرأها ويعرف محتواها، ويصفها بالكنوز المنسية التي يجهل معظم الناس قيمتها، ويضنون كما يقول بليرات قليلة للحصول عليها، موضحاً أن لديه كتباً بسعر 100 ليرة فقط، فالموضوع إذاً ليس بارتفاع ثمنها، لكننا مجتمع لا يقرأ، ويتابع متحدثاً: أكثر الكتب التي تتناول الأبراج مثلاً، أو كتب الفلك، والأحلام، وقراءة الطالع.

ضمن قائمة الهدايا
غير وارد ضمن قائمة الهدايا التي تفكر بإهدائها إلى حبيبها في يوم ميلاده تقول سمر، الفتاة العشرينية، وطالبة كلية الآداب: الكتاب في مجتمعنا ليس تلك الهدية البراقة التي يرغب شاب مثلاً أو فتاة في أن تقدم له في مناسبة خاصة، فالثقافة لدينا تتجه نحو أمور أخرى أكثر مادية ومعنوية كالورود والعطور، وغيرها من الهدايا، وتبقى هناك حالات قليلة قد ترغب بهدية الكتاب، أما عصام، طالب اللغة العربية، فيخالف سمر رأيها، ويقول: الكتاب من أكثر الهدايا الثمينة التي يمكن أن أحصل عليها، ومن المهم جداً أن نعمل كشبان على إحياء ثقافة جديدة في مجتمعنا تغير الواقع، صحيح أن الحال الذي نعيشه اليوم أدى إلى تراجع الكتاب، وتناقص أعداد القراء، وتصنيفنا كمجتمع لا يقرأ، لكن سنوات الحرب علّمتنا كشباب أن أكثر سلاح نواجه به أعداءنا هو سلاح العلم والمعرفة ونشر ثقافة القراءة، وهذا الأمر يحتاج إلى وعي وعمل من كل الجهات المعنية.

تبريرات اجتماعية
يوضح الباحثون في علم الاجتماع أهمية القراءة والكتاب بالقول: إن الكتاب مازال من أفضل الوسائل المعرفية لاكتساب المعلومات باختصاصات محددة، ورغم انتشار وسائل بديلة للقراءة واكتساب المعارف مثل مواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية، إلا أن الكتاب هو المصدر الأكثر مصداقية المفضل لأي بحث أو معلومة، سواء كان ورقياً أو الكترونياً، ونلاحظ اليوم أن المجتمع أصبح أقل اتجاهاً لقراءة الكتب نتيجة ضيق الوقت، وكثرة الضغوط الاجتماعية، خاصة في الأزمة، وانتشار بدائل عديدة كالأنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة بين فئات الشباب، كذلك يمكن أن يكون ارتفاع أثمان الكتب، وصعوبة الظروف الاقتصادية من الأسباب الأخرى التي أدت لهذا التراجع، وهنا يجب التأكيد على الأدوار الاجتماعية التي يجب أن تقوم بها كل من الأسرة والجهات المعنية، ففي كثير من الأحيان يكون توجيه الأهل محرضاً أساسياً للطفل على القراءة، فيجب أن يكونوا قدوة لأولادهم، لأن الأطفال يحاكون سلوكيات آبائهم، ويعتبرونهم قدوة لهم، أما على المستوى الرسمي فيجب العمل على زيادة معارض الكتب، وزيادة الأماكن المخصصة للقراءة لاستدراك التراجع، وعودة الكتاب ليأخذ دوره كإحدى أفضل الهدايا، وأكثر الأسباب لنجاح المجتمع ورقيه.

تذكرة ركوب
من الأفكار الطريفة التي قرأنا عنها فيما يخص القراءة، مبادرة في رومانيا يحصل فيها أي حامل لكتاب على ركوب مجاني في الحافلات، بحيث يكون الكتاب الذي تقرؤه تذكرة ركوب مجانية تنتقل بها من مكان لآخر، وتم تطبيق هذه الفكرة لمدة ثلاثة أيام متتالية، وحققت نجاحاً كبيراً، وهو ما يؤكد سعي المجتمعات الغربية لنشر الثقافة والعلم بين أفرادها لتكون أكثر قوة ومنعة وحصانة، فتحافظ على نجاحها وتطورها، وكم من الجميل أن نرى فكرة كهذه تطبق لدينا، ولكن ربما يكون الأمر مبكراً كثيراً، خاصة مع أزمة وسائل النقل، ومعاناة التنقل التي يعرفها المواطن السوري جيداً!.
محمد محمود