الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حنا مينه

 

حسن حميد

منذ ما يزيد على 40 سنة وأنا أقرأ أدب حنا مينه ولم أرتوِ منه لأنه أدب ولود وكشّاف وحيّ، وبيني وبينه حواجز كثيرة.. منها العمر، والانتماء، والأصدقاء، والمكانة، والشهرة، والعزلة، والظروف.. الخ.. لكن قراءة أدبه أطاحت بكل هذه الحواجز، فلم يبق منها سوى التهيب من حضوره الأدبي، ونجوميته الراعبة بوصفه أهم كاتب عربي في الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وسوى العطش الذي ورّثته قراءة نصوصه والشوق إليها في عودات أخرى!

أذكر أن المرة الأولى التي تجاسرت فيها واقتربت منه كانت في عام 1988، وفي الشهر الأول من تلك السنة حين هاتفته في مكتبه حين كان يعمل في وزارة الثقافة مستشاراً لوزيرة الثقافة ـ آنذاك ـ الدكتورة نجاح العطار. قلت له: أنا محرر أدبي، أعمل محرراً في مجلة (الهدف) الفلسطينية، أستأذنك بحمل سؤال إليك يدور حول الانتفاضة الفلسطينية، قال هامساً: أهلاً. تعال!

أراحني جوابه، وأعاد الحياة إلى روحي لأنني كنت أرتجفُ وأجفُّ وأتلجلج وأنا أتكلم معه. كنت وصديقي الكاتب أحمد سعيد نجم الذي راح ينظر إليَّ بقلق شديد مقدراً ثقل المكالمة على كتفيَّ وروحي، وحين وضعت سماعة الهاتف، نظرتُ إلى أحمد فرأيت وجهه أشرق بابتسامة بيضاء. قال: تمام، سأذهب معك معاضداً. قلت: أحمد، أرجوك، سنذهب، ولكن بعد أن نشرب القهوة. قال: طيب، بعد القهوة. شربت وإياه (دولة) قهوة حضّرتها أم العبد، أمّنا في العمل، وذهبنا نحن وما نفكر به، نحن والياطر، والمصابيح الزرق، والشراع والعاصفة، وحكاية بحار، والدقل، وبقايا صور، والثلج يأتي من النافذة.. وشجاعة شخوص هذه الروايات وجسارتهم. دخلنا عليه، ونحن نظنّ أنه غول ثقافي وراعب، وأن طيوفاً من الحضور تعرّش حوله مثل الدوالي، وأن التجهم يكسو وجهه! لكن ابتسامته الوادعة بدت لنا مثل استهلال لترحيب جلي، فأبدته موجة بحر مئناس. ولم نتجاسر، أنا وأحمد سعيد نجم، على الحديث في حضرته أكثر من السلام، وقلنا له نحن من مريديه، ونمشي في دربه، نحن من جمهورية سرد حنا مينه.. فضحك، وقال: أنتم أبناء المخيمات الفلسطينية نباتات برية، طعومكم حارة وطيبة، ومن الطين تصنعون الخزف!

منذ تلك المقابلة، على قصرها، راح وهج حضور حنا مينه يشيل بروحي بعدما محا بجمل قصيرة خوفنا منه، ورحنا نغرق أكثر في كتاباته، ونتباهى بأننا نعرف حنا مينه، وقد طاردنا سرده الجديد، وسعينا إلى لقائه كمريدين، وتجاسرنا أكثر، فحملنا إليه كتبنا الصغيرة المطبوعة على عجل.. وكنا نظنُّ أنه لن يفتحها لشواغله الكثيرة، لكنه كان صاحب مفاجآت، حين يحدّثنا عن ما يشير إلى أنه قرأ لنا.

حنا مينه الذي يرحل اليوم جسداً، هو الحيُّ الموّار بالجماليات، الذي يعيش داخل كل بيت ومدرسة، وجهة ثقافية في سورية وفي الكثير من البلدان العربية. إنه وفي توصيف شديد أشبه بجغرافية ثلاثية الأبعاد، أولها بعد أدبي، ثم بعد أبوي، وبعد آخر عصامي، في جهة الأدب كان مفرداً في غنى ضفافه بالبحر والناس، وأخصّ هنا أعماق البحر، وفقراء الناس، وفي الجهة الثانية، الأبوة، فهو المؤمن بأن الأدب أجيال، والكاتب مهما علا شأنه هو زهرة، والزهرة وحدها لا تصنع ربيعاً، وفيهالجهة الثالثة، كان حنا مينه مثالاً لبناء النفس بالنفس قراءة، وتعلماً، وحذواً.. ومن ثم التفرد..

بلى، إن ما صنعه حنا مينه، كتابةً وسلوكيةً، لهو حلم النفوس الكبار، والمواهب الثقيلة التي تعرف جيداً كيف تحجز لنفسها مطرحاً مجاوراً للجوزاء.

Hasanhamid55@yahoo.com