رأيصحيفة البعث

رحلة علاج استثنائيّة

أما وأننا عقدنا العزم فعلياً على إطلاق عجلة الإصلاح، وبأثر استدراكي لركام كبير من الخلل، فلا بدّ أن نلتفت وبقدر فائق من العناية لأهم عامل في مثل هذه الرحلة المديدة والمضنية، وهو بيئة الإصلاح ببعديها المؤسساتي والشعبي.
هنا في هذين البعدين يبدو المشهد مفعماً بالحساسية العالية، لجهة العامل البشري بكل تشعّباته وخصائصه، بل تناقضاته وسلبياته التي تنطوي داخل حجرة “الذهن أو الوعي المجتمعي” أو ثقافة الإصلاح، وربما في هذه الحيثيّة بالذات يكمن ما يلهب الهواجس بشأن تطبيقات فكرة الإصلاح بعموميتها كمشروع وطني يجري العمل عليه حالياً.
هي استنتاجات غير مطمئنة على الإطلاق، تستحق أن نفرد لها كفايتها من البحث والتحرّي، حتى لو كابر بعضنا وزعم أنها أوهام، علينا أن نخرج بتصورات دقيقة لحالة التلقّي الذهني الشعبي لفكرة الإصلاح بكل مساراته وتفاصيله، وعلى الأرجح لو حاولنا لوجدنا أننا أمام معضلة كبيرة تتطلب المباشرة فوراً بوضع خطة علاج، وستكون بالتأكيد طويلة الأمد لأنها تستهدف حالة غير محسوسة، هي الوعي الذي تشكّل على شكل “تنشؤات مرضيّة” لا سيما خلال الأزمة الصعبة التي أمسينا على بوابات الخروج منها..ميكانيكياً ويجب أن نخرج منها تكنيكياً، وهذه المهمة لن تنجز إلا بشحذ الوعي كمثقّل أهم على الإطلاق يضمن نجاح توجهنا نحو الأفق الجديد لسورية ما بعد الأزمة.
فمشروع الإصلاح الإداري يصطدم حالياً بذهنيّات لا بجدران صمّاء مانعة، وإن كانت ذهنيات محمولة في أنساق ممأسسة، فجذرها شعبي أولاً وأخيراً، كذلك الفساد هو حالة أفقيّة – شعبيّة – وليست مجرّد عموديّة، وهذه الحقيقة هي الأكثر مرارة في قوام حضور الظاهرة بيننا، وهي التي أنتجت حساسية ملف المعالجة واحتمالات عدم النجاح، فإن كانت مكافحة الفساد العمودي في الهياكل التنفيذية – أو فساد المسؤول – ممكنة بقرار، لن يكون الأمر مشابهاً في الحالة الأفقيّة، أي في المشهد الشعبي الذي عنونّاه بـ “ثقافة الفساد” أو بصراحة أكثر فساد المواطن، وليعذرنا من كان وقع التعبير غير مريح له .. لكنها الحقيقة.
أمام هذا الوجه الآخر والواضح للواقع، قد نكون أخطأنا في مزامنة مسارات الإصلاح عموماً، إذ يجري التركيز حالياً على الهياكل التنفيذيّة بعيداً عن المضمار الأوسع، وهو بيئة الإصلاح المرتبكة والكفيلة بإرباك كل المساعي الإيجابية، مهما بلغت الخطط من الحكمة والتطبيقات من الدقة.
فالوعي الشعبي الناضج والفعّال لا يمكن إنتاجه بقرارات إدارية وتعاميم وبلاغات ملزمة، بل يحتاج إلى آليات أخرى مختلفة تماماً تقوم على مسارين، الأول تربوي ووعظي تعبوي، والثاني رقابي متضمناً وسائل الردع والمساءلة، وهذه مهمة مجتمعيّة متكاملة تتشارك فيها الحكومة بمناهجها التربوية وإعلامها ووزاراتها ذات الفعالية في هذا المجال لاسيما وزارة الأوقاف، مع الهيئات والمنظمات الأهلية وقادة الرأي والوجهاء في المدن والأرياف، ولهؤلاء تأثير هائل علينا ألا نغفل عنه.
الآن ثمة رسائل جديدة تجب صياغتها في هذا السياق، تبدأ بإقرار مادّة أساسية “وطنيّة” في مناهج التربية بكل مراحلها، وفي الجامعات أيضاً، مختلفة بمحتواها عن محتوى المقرر “البائس” الذي تعتمده وزارة التربية حالياً، مروراً برسائل مباشرة وغير مباشرة في الإعلام والدراما، ثم المنظمات وهيئات المجتمع المدني، وصولاً إلى الوجهاء المحليين.
وعلينا أن نقتنع بأن حامل الإصلاح الحقيقي وأداته، ثم هدفه النهائي هو المجتمع بكليّته، وليس مجرّد الجانب الممأسس منه، لأن المؤسسات بنت المجتمع وليس العكس.
ناظم عيد