الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شرشف قصب (3)

د. نضال الصالح

قرأ محمد المادة التي كتبتها بثينة عن البناء المنهار من دون أن ينبس ببنت شفة، واكتفى، عندما أتمّ القراءة، بالطلب إلى موظف التنضيد بالقول: “بسرعة إذا سمحت، يجب أن نسلّم مواد الصفحة إلى المخرج حالاً”، وكانت بثينة أشبه بحافية على سطح صفيح ساخن وهو يقرأ، كانت ترقب ملامح وجهه وتنتظر أن تجهر عيناه بأيّ تعبير عن رأيه فيما كتبت، لكنّه، وشأنه دائماً عندما يكون غاضباً، بدا أشبه برجل آلي وهو يقرأ، ولأنها لم تستطع الإمساك بشيء في وجهه وعينيه، ولأنّ رأسها، بل جسدها كلّه، كان يضطرب بغير وسواس، ولأنّه لم يقل سوى ما قال، فقد استجمعت ما تبعثر من أشلاء قلقها، وقالت: “أعجبتك المادة أستاذ؟”، فما كان من محمد إلا أن أمعن غوصاً في الأوراق التي كان يكتب عنها إلى جهاز الكومبيوتر أمامه، والتي حشد فيها ما كان نقل من كتب التاريخ عن السويداء التي كانت ضباع متخمة بالسواد تدفقت عليها فجر ذلك اليوم الدامي، الخامس والعشرين من تموز.

في “معجم البلدان” أنّ: “السويداء: تصغير سوداء: موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام.. والسويداء: بلدة مشهورة في ديار مضر، بالضاد المعجمة، قرب حران بينها وبين بلاد الروم، فيها خيرات كثيرة.. والسويداء أيضا: قرية بحوران من نواحي دمشق، ينسب إليها أبو محمد عامر بن دغش بن خضر بن دغش الحوراني السويدائي، كان شيخاً خيّراً، تفقّه ببغداد على أبي حامد الغزّالي، وسمع الحديث من أبي الحسين الطّيوري، سمع منه الحافظ أبو القاسم الدمشقي ولبّس عليه، ومات بحدود سنة 530”. وفي “العِبَر في أخبار مَن غَبَر” للذهبيّ أنّ شيخ الأطبّاء في الشام في القرن السابع للميلاد كان “الحكيم عزّ الدين، أبو إسحاق الأنصاريّ، السويديّ، ثمّ الدمشقيّ.. (الذي) برعَ في الطبّ، وصنّف فيه، ونظرَ في علم الأوائل. وله شعرٌ جيد وفضائل، وكتب بخطّه الكثير، وكان مليح الكتابة. كتب (القانون) لابن سينا ثلاث مرّات”.

غادرت بثينة كرسيها الذي كاد يفضح اضطرابها وهو يهتز تحتها، ومضت إلى محمد الذي كان مستغرقاً في الكتابة، ولم تكد تقترب منه، حتى أربكت الفضاء حوله برائحة عطر باذخ لم يكن انتبه إليه عندما كان وهي في السيارة التي نقلتهما إلى موقع البناء المنهار، ثم وهما في طريق العودة إلى مبنى الصحيفة، ولم يكن يفصل بينهما في المقعد الخلفيّ للسيارة سوى المسند، وأحسّ وهي تزداد اقتراباً منه أنّ ثمّة ما يضرم رئتيه بما لم يعرف تفسيراً له، ولم يكد يرفع رأسه لينتظر ما ستقول له، ولم تكد عيناه تتلعثمان بما كان غزا جسده كلّه من الرعش، حتى قالت: “أعتذر أستاذ، والله لم أكن أقصد”، وحتى، وقبل أن تتم عبارتها، ولمّا تزل رائحة العطر تُرعده بخفق فادح لم يكن عرفه من قبل، وجد نفسه يستعيد بائية الشاعر جميل بثينة التي صدرُ أوّلها: “وأوّلُ ما قادَ المودّةَ بيننا”…. (يتبع).