ثقافةصحيفة البعث

“اختبار الندم”.. العبرة في الخواتيم

 

للمرة الثالثة يُعول خليل صويلح على تأنيث السرد في مواجهة ذكورية التاريخ، في روايته “اختبار الندم” الصادرة عن دار “هاشيت أنطوان” في بيروت، متبعا نفس قماشة التعويل التي اتبعها في كل من رواياته السابقة “وراق الحب” التي تحكي عن كاتب يحاول كتابة رواية وهو محاط بعدد من النساء، وأيضا “زهور سارة وناريمان” عن كاتب يحاول تأليف سيناريو انطلاقا من حلم شاهد فيه امرأة تركب قطارا، ثم يلتقي سارة التي تشبهها لتتشابك أحداث الرواية عن نفس النساء اللواتي في عنوانها.
الفرق الآن أن الأحداث في “اختبار الندم” تقع في الحرب، فترتفع جرعة الألم، والفرق أيضا أن شخصية الروائي بلا اسم، بعد أن حملت اسم الروائي نفسه في “زهور سارة وناريمان”، فظهر البطل عندها باسم “خليل” بجرأة أدبية تُحسب للكاتب، والتقاطة تقوم على تقشير الذات والكشف والبوح عن تشظياتها؛إنها القماشة السردية ذاتها، وهذه المرة أيضا في “اختبار الندم” لدينا كاتب عاجز عن إتمام روايته، بسبب الجحيم وأخبار الموتى من حوله، وأيضا بسبب علاقات حميمة مع نساء، الأقرب منهن إليه هن ثلاث: فتاة ضجرة كانت ترسل إليه قصائد على ماسنجر الفيس بوك، فتطورت العلاقة الأدبية إلى جسدية، ثم تظهر امرأة أخرى –نارنج-، وهي شخصية انطوائية ومبهمة، تكشف عن محنتها في حبكة هندية: صديقها وشى بها وفر إلى أوروبا، وتركها فريسة للتعذيب الذي طال أذنها بالقضم، أما المرأة الثالثة، فتعمل مصورة في وكالة أخبار رسمية، تتطور علاقته معها ويصبح بيت سرها، فتطلعه على صور حساسة.
ثم تتراكم الهموم أكثر فأكثر على كاتبنا، ولأنه لا يحمل اسماً في الرواية فسنقترح له هنا اسم السيد “x”، فهذا السيد كلما جلس محاولا إتمام روايته، يصطدم بمأساة هنا، أو خبر مؤلم في نشرة تلفزيونية هناك، ناهيكم عما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي بإبداعه، فعلا إنه وضع لا يحسد عليه، وما إن يستجمع قواه ليشرع في روايته عن غراميات مرحة، وسط الجحيم وأخبار الموتى، فإذا به أمام فيديو عن غرق سوريين مهاجرين يشل أنامله؛ أو خبر مرض صديق في فرنسا، أو موت صديق في برلين، بعدها تتحول الرواية إلى مشاهد متلاحقة، يعرض كل منها في 60 فصلا، لجانب من جوانب المأساة التي يصعب الإحاطة بها، هناك حكاية “سميح عطا” الذي فقد زوجته ومنزله في قصف جوي، ثم وجدوه ميتا داخل مسرح “القباني”، مرورا بحادثة انتحار المخرجة الشهيرة “نايا مروان” في شقتها بمدينة “كيب تاون”، إلى “أيهم الأحمد” الذي كان يقطن في مخيم اليرموك، هناك حيث قام بتجربة سريالية بأن جلب بيانو إلى ساحة السينما ليعزف عليه، فيمنعه التكفيريون من ذلك، فيضطر للهجرة إلى ألمانيا.
يؤخذ على “اختبار الندم” أنها قد تكون التفافة من الروائي نفسه، لحل معضلة أدبية تتمثل في عدم القدرة على إتمام رواية ما، فحتى في رواية “دع عنك لومي” تذهب الشخصية فجأة إلى عبلة إثر طلاقها، القصة الأقرب إلى يوميات طريفة تراوح في مكانها، تنتهي بحوار عن الشعر والخزف، وفي رواية “سيأتيك الغزال” تتكرر نفس المشكلة، فالمذكرات التي يسميها رواية، ستنتهي أيضا في مكان آخر ودون علاقة بأحداث الرواية نفسها، أما في الثلاثية التي تتضمن على كاتب عاجز عن إتمام نصه، محاطا بالنساء، فالحل يأخذ تجربة الخروج من الدائرة: الكاتب ينسحب ليكتب عن كاتب لا يستطيع الإتمام، يجعله يفشل بدلا عنه، وينجح هو بإتمام الكتابة عن فشله، كأن يقول لك طبيب جراح: “العملية الجراحية نجحت لكن المريض مات”.
الإصرار على نفس معضلة الكاتب الذي انقطع عنه الوحي وفارق حجرته، ليس مؤاتيا هذه المرة الجديدة في “اختبار الندم”، لأنه سيطرح سؤالا نقديا على الروايتين الأسبق والسابقة (وراق الحب-زهور سارة وناريمان)، فإذا كانت الحرب والويلات والأذن المقضومة والصورة الفظيعة، أخبار الغرقى وسياحة الرفاق في أوروبا، تجعل الإبداع لا يهبه من لدنه وليا، فما الذي كان يمنع شخصية الكاتب من إتمام نصه في الروايتين السابقتين قبل الحرب؟ إذا أخذنا أن الأسباب في العملين السابقين معقولة، فإذا ليست ويلات الحرب الآن هي ما يعوقه عن الإبداع، وإذا كانت الويلات الآن هي السبب، فالعراقيل التي ظهرت في “زهور سارة وناريمان ووراق الحب-” (واقع اجتماعي رث-سكن عشوائيات- فوضى-غياب أي أفق في دمشق الألفينات) ليست بشيء يُذكر أمام فظائع الحرب؛ شخصية الكاتب في الروايات الثلاث وطيلة ما يقارب العقدين إلا قليلا، متعرقل عن الإبداع، مع حرب أو بدون، في السلم أو عند التقاء الجحفلين، لذا يجب أن نجد السبب،فالحرب توشك أن تضع أوزارها، وربما ظهرت محاولة رابعة لشخصية الكاتب مع نسائه، عندها ما الذي يمنعه من إتمام روايته؟ قد يكون عودة أحد المهاجرين، أو أن صاحبة الأذن المقضومة، لم تكن صادقة في قصتها، قد تكون هي التي وشت بصديقها فاضطر للهرب إلى أوروبا، والآن تشي بشخصية الكاتب، فيشي هو بدوره بصاحبة الصور، وربما يعود صاحب البيانو أيام المخيم بصحبة الفرقة السيمفونية الألمانية ليتوسط لهم، فيخرجون ويحصلون على بطاقات دعوة للحفل.
السبب الذي يمنع السيد “x” من الإبداع في المجال الذي هو فيه، عندما رجعنا إليه، تبين أنه النساء؛ ساعات وأيام على ماسنجر الفيس “لتظبيط” الشاعرة، وصاحبة الأذن الغامضة والمنعزلة، تحتاج وقتاً وصبراً لتكشف له عن حكايتها، أما المصورة، فالعلاقة المتخيلة معها، بصرف النظر عن الصور، تحتاج وقتا كبيرا وربما جهدا أيضا.
وهناك سبب آخر وراء تلك المحنة الأدبية؛ شخصية الكاتب كثيراً ما يلتقي بآمال، ونارنج، وجمانة، أما الرجال، فيحول دونهم عطب المسافة، واحد في ألمانيا، وآخر في فرنسا، وغيرهم، كما أن الاستقرار في منطقة جغرافية صغيرة آمنة، لا يبادر فيها متقصو الحدث للوقوف على الوقائع، لأبعد من “القباني”، وإفراط في الاستماع لأحاديث النساء، ومواقع التواصل، تعني أن شخصية الكاتب منفصلة عن واقعه، فليس غريبا أن يعجز عن بلوغ النهاية، متكئا على أكتاف كوكبة من النساء في مقاربة أدبية لعوالم متخيلة.
تمّام علي بركات