الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

براري النقد..!

 

 

حسن حميد
الآن، أتذكر سطراً ذهبياً للأديب الفذ جبرا إبراهيم جبرا، فحواه أن طيَّ كل ناقد مهم مبدع مستبطن، حيي على الظهور والتجلي أمام الناس، والحق أن هذا صحيح تماماً، لأن عين الناقد الكشّافة لجماليات النص الأدبي لا تمتلك قدراتها إلا بعد معرفة أسرار الكتابة الإبداعية. هكذا كان جبرا إبراهيم جبرا نفسه كاتباً للقصيدة الشعرية المحتشدة بالجماليات، والقصة القصيرة البهّارة، والرواية ذات التعاريش الغاباتية، وهكذا هي حال إحسان عباس الذي قال إنه طوى المبدع في ذاته من أجل أن يبدو الناقد فيه ويتجلى، وهكذا كانت معظم الأسماء الأدبية التي قاربت النقد في الآداب العالمية، فـ دوستويفسكي الروائي الذي لا يدانى حين كتب عن (آنا كارنينا) لـ تولستوي كان يعرف أسرار الرواية، وبقعها الأرجوانية، وبناءاتها المضمرة لذلك أدهشت كتابتُهُ تولستوي والنقاد المحيطين به أيضاً.
قلت هذا السطر الطويل استهلالاً لكي أتحدث عن نقد الناقد المعروف نذير جعفر الذي لفت الانتباه إلى نصوصه النقدية منذ بداياته الأولى، والسبب يعود إلى أن نذير جعفر مشى في درب النقد وهو طالب على مقاعد الدراسة، وقد لاقت كتابته ترحاباً واسعاً لما فيها من ثقافة، وتصاد ما بين إبداع وآخر، وما بين حدث إبداعي مضى بين تضاعيف التاريخ وحدث إبداعي جديد يأخذ منه ويضيف إليه، وأعني بذلك الكتابات الميثولوجية التي عرفها الأدبان اليوناني والروماني، والأساطير اليونانية والرومانية في آن، ولعل أهمية النقد الذي كتبه ويكتبه نذير جعفر كامنة في الحوامل الثقافية التي شكلت مرجعيات أساسية لبيان قيمة النص وثقل ما فيه من إبداع استناداً لجماليات التراسل ما بين الفنون، وما يكمن من بهاء ونضارة في الطبيعة التي راحت النصوص البكر تحاكيها بوصفها مرايا، وأمر آخر جعل كتابة نذير جعفر النقدية جاذبة ومنتظرة هو جمالية الأسلوب ورصانته وانتظام حلقاته في سيرورة داهشة كما لو أنها اندفاعات الماء التي لا تُرى، ويضاف إلى هذا وذاك تصدي نذير لقراءة أهم الأعمال الروائية التي أنتجها أبرز مبدعي السرد العربي أمثال: نجيب محفوظ، وحنا مينه، وجبرا إبراهيم جبرا، وهاني الراهب، وإسماعيل فهد إسماعيل، ورشاد أبو شاور، وإميل حبيبي، وليلى العثمان، وغائب طعمة فرحان.. ولم تكن تلك القراءات تقدم شروح الحكايات السردية، أو تقدم تلخيصاً للأحداث، وإنما كانت قراءة في الجذور الأساسية للثنائيات التي عرفتها النصوص البكر مدونةً على شكل أساطير تقوم بمهمة تفعيل الأكوان الثلاثة المعروفة (العلوي، والواقعي، والسفلي).. وخصوصية كل منها، والتعالقات الواجبة فيما بينها لكي يتجلى الإنسان قيمةً في دائرة التجاذب فيما بينها!.
نذير جعفر، في كتابته النقدية، وما أصدره من مؤلفات في هذا المجال، كان صاحب مشروع نقدي، ولذلك كان طموحه، منذ بداياته، كبيراً، فهو لم يكتب من أجل الظهور نقدياً في صحيفة أو مجلة أو كتاب، وإنما أراد أن يكون جهة للنقد بمعناه الواسع، وليس بمعناه الأدبي فقط، أي أن يكون العين النفوذ التي تعبّر عن العقل الرائي الذي يميز جمالاً من جمال، ونيافةً من نيافة، ولهذا كانت نصوصه النقدية، ليست شواغل لمستبطنات الروايات فحسب، وإنما هي كتابات محتشدة بالثقافة والمعرفة وأسرار الفن.
بلى، إن من يقرأ مدونة النقد الأدبي في التراث العربي عبر أعلامه الكبار ومدونة النقد العالمي بمدارسها المتعددة والمترادفة تترى إلى يومنا الراهن، لهو روح نقدية لا هدف لها سوى الكشف عن أسرار الإبداع الراهجة الشغوف بالمناددة والجذب وتوليد الدهشة المحلومة، ومثلها في هذا.. مثل البراري وما فيها من خلب وجمال.

Hasanhamid55@yahoo.com