دراساتصحيفة البعث

القارة العجوز تحاول استرداد نفوذها في العالم

ترجمة: هيفاء علي

عن ريزو انترناسيونال 23/11/2018

ما زالت تبعات وأصداء حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة تأسيس جيش أوروبي موحد تضمن به القارة العجوز حماية مصالحها، حديث العالم ووكالات الأنباء. فالكلمات الفرنسية كانت صادقة في التعبير عن حجم الأسى الأوروبي المتزايد من التسلط الأمريكي، وجنون الاستعلاء الذي يمارسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحت شعار أمريكا أولاً، ونزع ورقة التوت عن حليفه الغربي الذي نعته رئيس أقوى دولة في العالم بأوروبا العتيقة والمريضة، ولم يتوقف عند ذلك بل طالبها بدفع ثمن حمايتها، في خطاب جديد من نوعه على دول تدور منذ عقود طويلة في المدار الأمريكي وتستظل بجناحه الأمني والاقتصادي والسياسي.

نفذ ترامب جملة ضربات، أراد من خلالها توضيح الفارق بين حجم بلاده وأقرب الحلفاء لها، فكان الانسحاب قبل أسابيع من معاهدة الحد من أسلحة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وجاءت الضربة في وقت قصير نسبياً من إعلانه أيضاً انسحاب أمريكا من اتفاقية المناخ التي كانت باريس وما زالت من أهم المدافعين عنها.

ثم اتخذ قراراً دون تشاور مع حلفائه بالانسحاب من الاتفاق النووي المبرم مع إيران، ولم يضع للرفض الأوروبي لهذا الانسحاب أدنى اعتبار، بل تمادى في ممارسة استفزاز وضح للجميع أنه مقصود ومدبر لإذلال الأوروبيين، بفرض رسوم جمركية عالية على صادرات دول القارة العجوز من منتجات الألمنيوم والصلب.

عنجهية الرئيس الأمريكي دفعت الرئيس الفرنسي لاستغلال ذكرى الحرب العالمية الأولى، وتسجيل هدف في مرمى الكبرياء الأمريكي، وترميم نظيره الأوروبي بالتبعية، وإعادة الحياة لمصطلحات كان يعتقد أنها عفا عليها الزمن، مثل “وحدة المصير ووحدة الدم بين فرنسا وألمانيا”، ليضرب أي محاولة أمريكية للعب دور شيطاني بينهما على خلفية الصراعات القديمة والاحتلال الألماني لفرنسا، بما يؤكد أن فرنسا ماضية بالتحالف مع ألمانيا لإحياء دور أوروبا في هذا التوقيت، وتأهيلها لممارسة دور عالمي يعيدها إلى توهجها القديم.

ذهب ماكرون إلى ساحات المعارك في شمال بلاده بمحاذاة الحدود مع ألمانيا، وحتى يشير إلى رسوخ علاقات أوروبا وبلدانها التي تناست كل شيء مرّ، قام بزيارة المقبرة الجماعية التي ضمت رفات جنود فرنسيين وألمان، تقاتلوا ضد بعضهم طوال السنوات الخمس للحرب العالمية الأولى، ومن هناك طالب بوحدة المصير المؤسسة على وحدة الدم بين فرنسا وألمانيا.

إن دعوة ماكرون هذه لم ترق لترامب بل أثارت امتعاضه، ولم يترك الليلة تمر دون التغريد على تويتر كالعادة، ليعبر عن استيائه من تصريحات نظيره الفرنسي عن ضرورة تأسيس جيش أوروبي لحماية القارة الأوروبية من الولايات المتحدة، واعتبره اقتراحاً مسيئاً جداً، وبدلاً من الانتباه لحجم الاستياء الأوروبي من تصرفاته،  طالب أوروبا بالدفع أولاً، وبمساهمة عادلة في الناتو الذي تموله بنسبة كبيرة الولايات المتحدة.

استمر ترامب في هجومه على ماكرون، خاصة بعدما انتقد الرئيس الفرنسي الخلفية القومية لنظيره الأمريكي، واعتبرها خيانة للوطنية في تحدٍّ أوضح من الحديث عن الجيش والهوية الأوروبية، ليرد ترامب ساخراً، بالقول إن الفرنسيين كانوا قد بدؤوا يتعلمون اللغة الألمانية قبل أن تأتي القوات الأمريكية وتحرر بلادهم من النازيين في الحرب العالمية الثانية، في إشارة إلى قسوة الاحتلال الألماني على فرنسا، وهي التداعيات التي كانت ضمن حطب اشتعال الحرب العالمية الثانية.

توقف الرئيس الفرنسي عند هذا الحد من السجال في التصريحات مع ترامب، بعدما بين لأقرانه الأوروبيين ما في جعبة ترامب تجاههم، وكيف ترى أمريكا ما آلت إليه بلدان الحضارة الغربية، ليضع على أولوياتهم ضرورة النهوض بالاتحاد الأوروبي، ولن يحدث ذلك بالطبع إلا بالمضي قدماً في تحصين العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” باعتبارها العنوان الأوضح للتعاون الاقتصادي.

بجانب المال لا بديل عن تشكيل “جيش أوروبي موحد”، ولم يكن لدى ماكرون أدنى أزمة في الحديث علناً وتوصيل رسالته للشعوب الأوروبية عبر إذاعة “أوروبا 1″ الناطقة بالفرنسية، وشدد الرئيس الفرنسي على أن حماية الأوروبيين لن تتحقق بجانب الاقتصاد، إلا بإنشاء جيش أوروبي حقيقي يكون ضمانة من ناحية عدم الاقتتال الأوروبي – الأوروبي، بجانب حماية القيم الغربية، والعمل على انتشارها والدفاع عنها دون مواءمة أو تربيطات تعلي من قيم القوة فوق الحق، ويعيد لأوروبا تأثيرها العالمي كقطب يعمل له ألف حساب.

وتشكل عملية إحياء القدرات العسكرية الأوروبية المستقلة، حوافز كبرى للحصول على مكاسب أكبر، على رأسها الاستقلالية السياسية والأمنية عن الولايات المتحدة، بما يضع الأوروبيين أمام حق تقرير المصير في صد الثغرات الأمنية التي لم يتمكنوا من التصدي لها، وتحجيم تصاعد عدد الجماعات المتطرفة والإرهابيين ذوي الأصول الأوروبية الذين قد يتدفقون على بلادهم من الشرق الأوسط، عبر احتواء نزعة التطرف القومي اليمينية التي تهدد ليبرالية أوروبا، وهو توجه كانت تعارضه أمريكا بالطبع، وقوضت أي جهود في هذا الشأن طوال السنوات الماضية.

الحلم الأوروبي الذي استيقظ فجأة، وبدأ يروج لأوروبا القديمة التي كانت كل دولة فيها قطباً مستقلاً عن النظام العالمي، فضلاً عن توحد القارة دائماً أمام أي تهديد لمبادئها، وجد أن غفلته جعلت أقطاباً أخرى، تصعد إلى جوار الولايات المتحدة، وأصبح للصين وروسيا قراراتهما وأفكارهما ومصالحهما الخاصة التي يعمل لها الجميع ألف حساب.

ولن تتقدم أوروبا تجاه أي خطوة تصحيحية متأخرة، إلا بالتخلص أولاً من التبعية العسكرية والأمنية للولايات المتحدة، وامتلاك قرارها المبني على قدرات عسكرية خاصة، تستطيع منافسة أي قوة عالمية أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وستستند بذلك إلى تشجيع الرئيس الروسي رغم الاختلاف الكبير معه على أوروبا غير تابعة، بما يقلل من الوزن الأمريكي، ويدعم في المقابل تعددية القطبية التي تساندها موسكو وبكين، لتوقف زحف الهيمنة الأمريكية، فعندما يحضر المال يغيب كل شيء، وتصبح كل قيمة لها ثمن تباع به وتشترى في العرف الجديد لـ”الترامبيين الجدد”.