الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

صلاة للعام الجديد

 

 

د. نضال الصالح
“يا ذا العطا.. يا ذا الرجا.. يا ذا السخا.. اسقِ العطاشَ تكرّماً”.. العِطاشَ ليسَ للماءِ الماء، بل لماء الحقّ، والخير، والحبّ، والنقاء. العطاشَ لما يعيدُ الحياةَ للحياة، أو لمَا يهبُ الحياةَ معنى، ويطلقها من هذا اليباس، أو اليباب، أو الهبَاء. العطاشَ لأوّل الخلْقِ، حيثُ الكونُ طهرٌ، خالصُ الطهرِ، عبقريٌّ كالبهاء. العطاشَ لأوّل الأوّلِ، أوّلِ ما كانَ، وما سوف يكونُ، في السماء. يا ذا العطاء، أعطنا حبّاً، فبالحبّ نغدو أسوياء.
أعطنا ما يستردُّ الإنسانَ فينا كي نهدلَ للبياضِ كما اليمام. أعطنا “خبزنا كفاف يومنا” رطباً جنياً من الأمنيات، أو ممّا يضوّعه الغمام. ممّا تباركَ مِن أناشيد السلام. “أعطنا حبّاً، فبالحبّ كنوز الخير فينا تتفجّرْ، وأغانينا ستخضرُّ على الحبّ وتزهرْ، وستنهلّ عطاءً، وثراءً، وخصوبة.. أعطنا نوراً يشقُّ الظلماتِ المدلهمّة، وعلى دفْقِ سناه، ندفعُ الخطوَ إلى ذروة قمّة، نجتني منها انتصارات الحياة”.
يا ذا الرجاء رجاؤنا خَلْقٌ جديدُ، أو قيامة، أو آدمٌ ثانٍ وما على الأرضِ دمٌّ، بل خُزامى، رجاؤنا بشَرٌ كالندى رقّةً، وكالعذوبة غبطةً، وكالأنبياء عصْمةً، بشرٌ هواؤهمُ وماؤهمُ وخبزهمُ الكرامة. بشرٌ للروح عطرُ، وللنبض إنجيلٌ وقرآنٌ، وترانيم صلاة، وتجويدٌ، كأنّهم لفظٌ فريدٌ، كأنّهم، يا حقُّ، شِعرُ. بشرٌ بِشْرٌ ودرٌّ وتبْرُ، بشرٌ سرّهم جهْرُ، بشرٌ إذا ما دعا داع لخير كان واحدهم كثيراً، كما لو كانَ غَمْرُ. يا ذا الرجاء رجاؤنا عربٌ عربْ. لا تُبّعٌ، أو غُبارٌ، أو نعاجٌ، أو دمى، أو خشب. عربٌ أسيافهم برْقٌ وخيلهمُ غضب. عربٌ هجروا البداوة في العقول وفي السياسة والخُطَب. عربٌ من روح ودمّ لا حطب. عربٌ دمهم دمٌ، وليس نفطاً، أو خواء، أو شبهَ ماء، أو دماً لا دمَّ فيه، أو دماً زائغ الأصل.. دماً مطعونَ النسب.
ربِّ ما عربٌ هؤلاء بل ذئابُ؟ بل أشدُّ من الأعراب كفراً ونفاقاً كأنّهم، ربّ، خرابٌ، أو خرابٌ، أو خرابُ، أو كأنْ من وحْلٍ صنعتَ، ثمّ كسوتَ الوحلَ وحلاً، فكانَ، مِن بعدُ، حجابُ، ثمّ دمٌ، ثمّ دمّ، ثمّ دمّ، ثمّ لم يُبعَثْ غُرابُ.
ربّ مِن كلّ فجّ جاءنا دودٌ، ورجْسٌ، ومسوخٌ، وأشباهُ رجال، ونساءٌ، بل زيْفُ نساءٍ كأنْ من صخْرٍ خُلقْنَ، وما فيهنّ خفْقٌ، بل شهوةٌ للقنْص، والذبح، والدم، والموت الزؤام.
كأنّهن، للتوّ، يصعدنَ من نار الأساطير كالأفاعي، كأنّهن ربّات الجحيم، والدمار، والعالم السفليّ، وما ادلهمَّ منَ الظلام. كأنّ إحداهنَّ زقّومٌ، وسُمٌّ، وشؤمٌ، وسُقْمٌ، وما تشظّى مِن جُذام.
ربِّ، لي أملٌ، وسْعَ الخليقةِ، في غدٍ باذخِ الضوء، غدٍ لا ريبَ فيه، ندىً للحالمين. غدٍ ملء كوثره جِنان من بياض الياسمين. غدٍ كالجلّنار إذْ يصلّي للمواعيد الحكايا في أكفّ العاشقين. غدٍ باهرٍ بالنعميات، والأغنيات، والأمّهات وهنّ ينهضنَ إلى الصباح كالقبّرات مُترَفَاتٍ باليقين.. أنْ سيكونُ صبحٌ من الحُسْنِ، والحبِّ، والحقّ المبين.. أنْ ستنهضُ الحياةُ إلى الحياة، مِن رحمِ الحياة، وثَمّ في الأمداء ترتيلٌ لعشّاق الحياة أن ادخلوها بسلامٍ آمنين.