ثقافةصحيفة البعث

اثنتا عشرة حرفة في بيت الشرق للتراث السوري

 

اثنتا عشرة حرفة سورية بديعة، كادت روحها تغيب عن نسيج الحياة السورية، تلك التي صنعتها ألوف الأعوام من الحضارات المتعاقبة، والعقول المستنيرة اجتمعت مع اثنا عشر مُعلما، عادت الضحكة لأياديهم، بعد أن عادوا إلى العمل بتلك الحرف التي شغفتهم حبا، خصوصا وأن العديد من الأسباب وأهمها الحرب، أطاحت بورشهم الباقية، تلك التي ظلت وأصحابها، محافظة على هذا الإرث الثقيل والنبيل معا من الفن السوري الخالص، وذلك في واحد من بيوتات دمشق، التي كانت آيلة للسقوط،  في حي الميدان الدمشقي العريق.

شيء من الروحانية يلمس الشغاف، ما إن تلج من ذلك الباب حيث تنفرج السماء بعد عدة خطوات، عن جمال أخاذ يلف المكان، فسحة حميمة، مزنرة بالنارنج والجوري البلدي والياسمين، تلقي الشمس على خدها أشعتها المنيرة، فتعبق الألفة بالأجواء، وتتصاعد المسرة من المكان، كما تتصاعد أبخرة كؤوس الشاي، الذي صب منذ قليل، بعد أن جلس الجميع حول سفرة واحدة، يتقاسمون العمل والأمل كما الخبز، بتحويل المكان إلى نواة لتعليم الحرف اليدوية الموجودة، من عدد محدود مبدئيا من الراغبين بذلك، إلى أكاديمية سورية، تجعل لهذه الحرف المشغولة بماء العين، استمرارية لا تنتهي، فتاريخ هذه البلاد وإرثها العريق حسب مديرة جمعية “الوفاء التنموية السورية” رمال صالح، التي تعاونت والأمانة السورية للتنمية، لتحقيق هذا المشروع المسمى بـ “بيت الشرق للتراث”، تخبرنا وبمزيد من الحبور عن المشروع، وهي تنظر إلى العمل الذي بات جاهزا ليكون تلك النواة الفنية البديعة:(هذا الإرث ليس حالة عابرة تذرو ملامحها رياح التكنولوجية، بل هي جزء من روح هذا البلد، وطبيعة أهله الرقيقة، في الحقيقة هذا المشروع هو بمثابة حاضنة لتعليم الحرف التراثية اليدوية، والعمل على استمرارها، وكما ترى تتوزع على تلك الغرف الموجودة في البيت، الذي قمنا بترميمه، ليكون مناسبا لهذا المشروع، وقد قمنا بتأمين كافة مستلزمات العمل الخاصة بها، اثنتا عشرة حرفة سورية تراثية، كاد معظمها أن يصبح ماضيا، لأسباب كثيرة ليس آخرها الحرب وما فعلته بالقلائل من أصحاب هذه الحرف الباقين على ما تناقلوه من آبائهم عن أجدادهم، بعد أن ذهبت أغلب ورشهم المتوزعة في أنحاء دمشق، وها نحن اليوم وإياهم على وشك إطلاق البدء بالعمل في فترة قريبة جدا ومن هذه الحرف: البروكار، الاغباني، النقش على الخشب، الفسيفساء الحجري، الصدف، الخيط العربي، الموازييك، وكنا تقدمنا إلى الجهات المعنية بهذا المشروع، ووافقت عليه، وكما ترى نحن مستعدون وجاهزون لهذا العمل”.

الجمعية التي كانت مبادرة في بداية الأحداث عام 2011، والتي ولدت في رحم الأزمة، تحولت عام 2018 من فكرة إلى أمر واقع، وبدأت بالعمل على عدة مشاريع وضعتها كخطة عمل لها، لم يكن أولها هذا المشروع، بل سبقه أيضا مشروع “مشغل خياطة”، المستفيد الأول منه حسب مديرة الجمعية هم “جميع الأسر السورية التي تضررت من الحرب، بحيث يصبح لهم مورد رزق آخر يعينهم على الحياة الصعبة التي نمر بها الآن”.

وجود المشروع في منطقية شعبية، لها رونقها الخاص في قلوب السوريين، الدمشقيين منهم خصوصا، أعطى للمشروع شعبية سريعة، تقول السيدة رمال “نحن نستقبل يوميا وخلال مدة الشهرين التي تواجدنا فيها هنا بشكل مستمر، عشرات الطلبات والأسئلة بما يخص المشروع، الذي سيكون مستقبلا إنتاجيا أيضا، إلى جانب كونه تعليميا، والشباب الذين سيتعلمون اليوم هذه الحرف، سيكونون هم ومن يليهم في الغد، من أهم أسباب استمرار هذه المشروع، الذي بالتأكيد لن يستطيع ذلك، إن لم يكن إنتاجيا، ومن خلال منبركم الموقر، نطلب من الوزارات والمديريات المختصة، أن تعمل على مساعدتنا في تسويق نتاجنا، الذي سيستفيد منه كما قلنا الكثير من الأسر السورية التي تضررت بشدة من الحرب، وهذه المبادرة في الحقيقة، يجب أن يكون لدينا العديد مثلها وإن كان في مجالات مختلفة، فالوطن ليس بكامل عافيته اليوم، وعلى أبنائه المبادرة والعمل على معافاته وعودته إلى ما كان عليه بل أجمل”.

الحرفيون الاثنا عشر المتواجدون في المكان، والذين انضموا إلى المشروع، بعد أن عملت الجمعية على ذلك، هم كما أسلفنا من الحرفيين الذين تضررت ورشهم بنسبة كبيرة، بحيث لم تعد تصلح للعمل فيها، وهم بتواجدهم اليوم في المشروع، لا كحرفيين فقط، بل كمعلمين وبناة أجيال، لكل الراغبين في تعلم هذه الحرف من الشباب والصبايا السوريين، عبروا عن مشاعرهم الصافية والمنعكسة على ملامحهم، بالفرحة فعلا في عودة الضحكة لأياديهم، بعد أن عادت للإبداع من جديد، تلك الأيادي التي كٌتبت فيها القصائد، وكلنا يذكر القصيدة الشهيرة للشاعر المجيد “سليمان العيسى” بمدحه إياها قائلا في مطلع قصيدته “عمي منصور النجار، يبدع في يده المنشار”، ومنهم”محمد الشماع-أبو شادي من الشام-، الذي يعمل في حرفة”البروكار” والذي يعمل على أقدم نول لغزل البروكار في سورية، بعد أن قام بترميمه وتحسينه ليعود إلى العمل، يخبرنا أبو شادي: “أنا ابن هذه المهنة مذ كان عمري 10 أعوام، تعلمتها من والدي الذي تعلمها بدوره من والده، جدي”، يضع أبو شادي يده على النول كما لو أنه يضعها على كتف صديق ويتابع بعفويته الطيبة: “هذا النول حيك عليه فستان زفاف ملكة بريطانية إليزابيث الثانية، وهو من أقدم الأنوال الموجودة القليلة الباقية”، يحكي أبو شادي عن حال العمل الذي كان واقفا، بسبب الدمار الذي حل بورشته، وهو ممتلئ بالأمل بعد أن تواصلت معه الجمعية، ليكون موجودا في المشروع، وهو كما يخبرنا سيعمل بأمانة مهنية معروفة عن أهل هذا البلد، على نقل هذه الحرفة العريقة إلى العديد من الذين سيجعلونها خالدة خلود الزمان.

أيضا كان لنا عدة أحاديث مع المعلمين الموجودين في المكان، وإن كان المقال لا يتسع لما يعتمل في قلوبهم من أملهم بغد أفضل هم واثقون من قربه بهمة من لا تغمض أعينهم ولا تكل أرواحهم عن جعله أمنا عزيزا سالما.

ترافقت زيارتنا للمكان، بوصول العديد من الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين كانت ضحكاتهم تطير في سماء البيت، مع نسمات شباطية هادئة على غير العادة، ومن يدي أخذوني إلى إحدى الزوايا المشمسة، حيث وقفت ياسمينة بيضاء نقية، شذاها يأسر القلوب، وطلبوا إلي أن أدعو معهم إلى الله أن يحفظ تلك الياسمينة الغالية على قلوبهم، وأن يديم عبقها على كل البلاد.

تمّام علي بركات