ثقافةصحيفة البعث

كونفوشيوس.. معلِّم الحكمة

 

منذ القدم اعتُبِر كونفوشيوس (551-479 ق. م.) “أول الحكماء”. أما اليوم فأصبح “قدوة العشرة آلاف جيل”. كان كونفوشيوس فيلسوفاً ومسؤولاً سياسياً ومربياً قديراً شكَّلت قيمه التربوية النظام المدرسي في الإمبراطورية الصينية طوال ألفي سنة، وفي بلدان آسيا الشرقية ذات الثقافة الكونفوشيوسية مثل كوريا وفيتنام واليابان.
تعود أصول كونفوشيوس إلى إمارة لو (تسمى اليوم كونفوش)، وكان الصينيون يسمونه كونغزو، وفي القرن السادس عشر نقل المبشرون اليسوعيون اسمه إلى اللاتينية. بدأ كونفوشيوس حياته موظفاً مكلفاً بدائرة المواشي، ثم أصبح محافظاً ومسؤولاً عن الأشغال العامة في مدينة زونغدو، فوزيراً للأمن والعدالة في إمارة لو. بعد ذلك، جال في المقاطعات الصينية مع تلامذته (يُنسب إليه 3000 تلميذ) ثم عاد إلى مقاطعته ليكرس فيها أيامه الأخيرة للكتابة والتعليم.
مع ذلك، يجب توخي الحذر فيما يتعلق بسمة القداسة التي أضفيت على تاريخ هذا الشخص الذي أصبح يشبه المسيح في الشرق، أو بوذا. تاريخ ولادة كونفوشيوس ووفاته غير مؤكدين، أما أفكاره فقد وصلتنا عبر ما جمعه تلامذته من أقواله (جُمِعت كلها في المحاورات)، ومن خلال ترجمات وتفسيرات تابعيهم عبر الزمن، تصوره السير على أنه حكيم هزيل البنية يجيد القراءة والكتابة، لكن الحوارات تبين أنه كان رجلاً فاعلاً ورياضياً متمرساً، خبير في ترويض وقيادة الخيل، ويمارس الرماية بالسهام والصيد وصيد السمك. كما كان رحالة لا يتعب، تجول في كل ممالك الصين الصغيرة قبل الإمبراطورية.

الجدارة قبل النسب
نقرأ في الحكم التي تشكِّل كتاب المحاورات: “الدراسة دون تفكير لا جدوى منها، ولكن التفكير دون دراسة خَطِرْ”. يرى كونفوشيوس أن الدراسة مكمل للتربية الأخلاقية لا يمكن الاستغناء عنها، كما كان يرى أن التربية تلعب دوراً أساسياً للوصول إلى المجتمع الفاضل الذي كان يدعو إليه لأنها ترفع المستوى الأخلاقي للمجتمع.
عايش كونفوشيوس “ربيع وخريف” سلالة زو الشرقية فشهد مجيء وقيام نظام سياسي جديد حلَّ محل القديم القائم على سلطة العائلات. كان التعليم في السابق موجهاً إلى النبلاء الذين كانوا يتلقون تكويناً مدنياً وعسكرياً عبر دراسة “الفنون الستة”: الطقوس (أو المراسم) والموسيقا والرمي بالسهام وقيادة العربات والخط والرياضيات. ندد كونفوشيوس بالنظام السائد والقائم على وراثة المناصب وعلى المحسوبيات؛ وكان يرى أن انتقاء الموظفين الحكوميين يجب أن يتم بناء على الجدارة “وانتقاء الأكفأ”. وكي يكسر احتكار طبقة النبلاء، افتتح كونفوشيوس مدرسة تستقبل الطلاب الفقراء كما الأغنياء، وكان تعليمه موجهاً للجميع دون تمييز. فقد كان يسعى للترويج لرجال جديرين يجمعون بين الكفاءة والنزاهة الأخلاقية لتشكيل حكومة تتصرف بنزاهة.

ثقافة الخمس الكلاسيكية
ستصبح التربية الأخلاقية ونقل المعارف أساس التربية الكونفوشيوسية طوال ألفي عام. وقد بقي نظام الامتحانات القائم على أساس البنية الامتحانية الكونفوشيوسية سارياً حتى نهاية الإمبراطورية (عام 1911).
يقوم المذهب الأخلاقي على “الرفق” أو حب الأقرباء الذي يتجلى في طاعة الوالدين واحترام كبار السن والولاء والإخلاص والتسامح والحكمة والشجاعة. فالتصرف بأمانة واستقامة وتعاطف وإبداء الاهتمام والاحترام هي فضائل الإنسان الشريف التي تجعل العائلة حسنة السير شأنها شأن بلد حكمه رشيد ويعيش شعبه بسلام.
إلا أن كونفوشيوس كان منشغلاً أيضاً بالتكوين الفكري لتلامذته، وتُنسب إليه (خطأ بالتأكيد) كتب المبادئ الخمس الكلاسيكية: كتاب الأناشيد (الشي)، وكتاب الوثائق (التشو)، وكتاب الطقوس أو المراسم (اللي)، وكتاب الموسيقا (اليو)، وكتاب التحولات (اليي). التي أصبح تعلمها إجبارياً للمثقفين وموظفي الدولة والموظفين العسكريين في الصين الإمبراطورية منذ عهد إمبراطورية هان (القرن الثاني قبل الميلاد). تتناول هذه الكتب التربوية الأخلاق والفلسفة والتاريخ والسياسة والثقافة والفن والموسيقا. بالإضافة إلى الكلاسيكيات التي كانت تهدف إلى نقل ثقافة عامة، حرص التعليم الكونفوشيوسي على إتقان الفنون الستة.
مع ذلك كانت لهذه التربية الإنسانية والشمولية بعض الحدود. يُحكى أن كونفوشيوس زجر بشدة تلميذاً سأله أن يعلمه الزراعة قائلاً: “عليك أن تسأل بستانياً عجوزاً عن ذلك!” وإن كان تعليمه يهدف إلى صنع رجال قويمين إلا أنه يتجاهل العلوم الطبيعية والزراعة وفن التجارة، لأن التعليم الكونفوشيوسي كان يحتقر العمل اليدوي ومن يزاولونه.

انتشار واسع
أعفى كونفوشيوس تلامذته من العناصر الأولى التي ستشكل ثقافتهم الكونفوشيوسية. وانتشرت هذه الثقافة عبر “معلمي الحكمة” الذين كانوا يجولون في الصين بحثاً عن تلامذة متحمسين وأمراء متنورين ليعلموهم مقابل شرائح من اللحم. دخلت أفكاره كوريا وفيتنام منذ عهد إمبراطوريتي كين وهان ووصلت اليابان في القرن الثاني الميلادي. بهذا الشكل طبعت الكونفوشيوسية العادات والتقاليد في الشرق الأقصى بطابعها، ولا يزال تأثيرها على التعليم والمبادئ الأساسية لحياة الأسرة والمجتمع وفن الحكم مرئياً حتى يومنا.
قام اليسوعيون الذين وصلوا إلى الصين بنشر الكونفوشيوسية في أوروبا (في القرن 17، ترجم اليسوعي ماتيو ريتشي المؤلفات الكونفوشيوسية إلى اللاتينية) وافتتنت أوروبا عصر التنوير بالكونفوشيوسية التي رأت فيها نموذجاً مضاداً لسلطة اليمين المقدَّس ولاستبداد الأمراء الغربيين. وحتى يومنا هذا، لا تزال المجتمعات الكونفوشيوسية تحترم الكتب والمعلمين والامتحانات الأمر الذي يحن إليه بعض المعلمين الغربيين.

التجديد الكونفوشيوسي
بقي كونفوشيوس، إلى اليوم، المفكر الصيني الأكثر تأثيراً. وتُلاحظ، منذ عدة سنوات، في هذا البلد الكبير والمعولم، ظاهرة تجديد كونفوشيوسية (رويجا فيوكسينغ). وعندما أصدر الرئيس الصيني هو جينتاو، عام 2005، مرسوماً بـ “بناء مجتمع منسجم” كأولوية مطلقة في الأجندة السياسية، أشار هذا القرار السياسي – غير المسبوق في العهد الشيوعي- إلى إعادة الاعتبار للقيم الكونفوشيوسية التي لم يتوقف انتشارها الثقافي في الصين أبداً.
كما تعد حركة قراءة الكلاسيكيات (دويجينغ يوندونغ) مظهراً آخر من مظاهر هذا التجديد، وهي تندرج ضمن الممارسة القديمة للتعليم على يد معلم مؤدِّب. في السنوات الأخيرة ازدهرت في الصين عشرات المدارس الخاصة غير المعترف بها، والتي جاءت كرد فعل على التعليم العام الإلزامي الذي أهمل نقل الثقافة التقليدية وتشكل القيم الأسرية، بالاشتراك مع حفظ الكلاسيكيات الكونفوشيوسية أساس هذه التربية.
*مارتين فورنييه
ترجمة ليلى الصوَّاف