دراساتصحيفة البعث

أوكرانيا وأمريكا و”الجزيرة الروسية”

ترجمة: علاء العطار
عن موقع “فالداي” 29/3/2019
باتت المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة حول مجموعة واسعة من القضايا إحدى حقائق العالم الحديث، فكل بلد يمتلك رؤية عن النظام العالمي مختلفة جذرياً عن الآخر، ومن المتوقع أن يستمر هذا التنافس لسنوات عدة قادمة، فالولايات المتحدة تطمح لأن تبقى القوة العظمى المهيمنة، وروسيا لن تتنازل عن ثوابتها بتاتاً.
تعدّ الانتخابات الرئاسية التي جرت في أوكرانيا، والانتخابات البرلمانية التي ستتبعها عظيمة الأهمية من حيث فهم القوى المتنافسة لها، وتعدّ أوكرانيا في نظر الغرب، الذي يسترشد بمنطق توسيع مجال نفوذه، أهم وسيلة لردع روسيا وتقويض شعورها بالفخر والاستقلال.
وفي نظر لروسيا، تبقى مسألة عدم اشتمال أوكرانيا في دائرة النفوذ الغربي (الناتو والاتحاد الأوروبي) أمراً جوهرياً للبقاء الجيوسياسي والاجتماعي والثقافي. يفرض موقع روسيا “المنعزل”، كما كتب فاديم تسيمبورسكي آنفاً، الحفاظ على الفضاء “المتاخم” لها، بل إن هذا شرط لازم لتضمن سلامها من الضغط الخارجي في تنمية “أوراسيا الداخلية”.
وبعد مرور خمس سنوات على معارضة حكومة كييف الجديدة لروسيا، وصلت أوكرانيا إلى مرحلة مهمّة، إذ قامت النخبة المناهضة لروسيا، المنضوية تحت لواء بوروشينكو بتمكين سلطتها وستعمل جاهدة للحفاظ عليها، وإن كانت تأمل التمسك بالسلطة، عليها أن تبقي فكرة التهديد الروسي حيّة، حتى لو استتبع ذلك اللجوء إلى الاستفزازات. فقد أدى استفزاز مضيق كيرتش، بصورة خاصة، في تشرين الثاني 2018 إلى تصاعد المشاعر القومية داخل البلاد، وساهم أيضاً في إلغاء الاجتماع المقرّر بين بوتين وترامب وفرض عقوبات جديدة على روسيا.
وهناك قوى في الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، تلعب دوراً في “محاصرة” روسيا عبر فرض العقوبات وزرع المشاعر المعادية لروسيا في أوكرانيا، ولاتزال أوكرانيا تنجذب للفضاء العسكري السياسي لحلف الناتو، إذ من المخطّط إرسال شحنات جديدة من الأسلحة الفتاكة إلى كييف. وتتضمن الوسائل الأخرى للغرب إرسال مدربين عسكريين، وإجراء مناورات مشتركة، وبناء قاعدة عسكرية في أوشاكوفو، وتحسين قدرات الجيش الأوكراني بشكل تدريجي ليضاهي المعايير العسكرية الغربية، ودعم آمال كييف في الانضمام إلى التحالف. وتستبعد واشنطن سيناريو استجابة روسيا بشكل مماثل رداً على التصعيد في شرق أوكرانيا، وهذا سيعزّز موقف القوات الموالية لأمريكا في أوكرانيا. وفي حال امتنعت روسيا عن استخدام القوة، سيتمّ اعتبار ذلك نجاحاً للدبلوماسية الأمريكية، ودليلاً على فعالية أساليب الضغط ضد موسكو.
على أية حال، حدثت على مدى السنوات الخمس الماضية تغييرات متنوعة في أوكرانيا، ما أضعف موقف نظام بوروشينكو بشكل ملحوظ، فالاقتصاد يعتمد على القروض الغربية، وفضائح الفساد تهزّ البلاد، والرأي العام يرفض بشكل متزايد تقديم المستوى المطلوب من الدعم للرئيس، كما يتزايد القلق وسط النخب جراء عجز السلطات عن تقديم طرق فعّالة لإعادة دمج منطقة دونباس واسترداد القرم وتحسين مستويات المعيشة ومكافحة الفساد. وفي الوقت ذاته، تحتفظ أوكرانيا بمستوى عالٍ من التجارة مع روسيا، على الرغم من الخطاب المعادي لها، وتعتمد عليها اقتصادياً، ولايزال اهتمام كييف بمرور الغاز الروسي عبر أراضيها شديداً.
أياً كان الظافر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في كييف، ستبقى القضايا السياسية والاقتصادية المذكورة أعلاه مهمّة، ما يعطي روسيا أفضلية من حيث الوقت، لأن تنامي التناقضات الأوروبية الأطلسية، وقرارات البيت الأبيض ليست مرضية أبداً للاتحاد الأوروبي، الذي يريد حلاً مبكراً للصراع الروسي الأوكراني. ويفضّل العديد من الأوروبيين عدم فرض عقوبات جديدة على روسيا، خاصة إذا كانت ستؤدي إلى الحاجة لشراء غاز أمريكي باهظ الثمن. وهذا لن يكون فعالاً إلا إذا استمرت روسيا في إظهار استدامة سياسية واقتصادية، إلى جانب الأمور المتعلقة بالسياسة الداخلية والخارجية النشطة، وفي العلاقات الدولية الحديثة. صحيح أنه ليس لدى موسكو الرغبة في التنافس مع الولايات المتحدة على مركز القوة العظمى، لكن لدى روسيا العديد من الفرص لتبقى قوة إقليمية عظمى. ففي أوراسيا وأوروبا الشرقية والمناطق المطلّة على البحر الأسود وبحر البلطيق، لدى موسكو مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والإنسانية والاقتصادية والعسكرية لا تملكها الدول الغربية ولا غيرها من القوى.