ثقافةصحيفة البعث

فرحان بلبل و”رسالة الغفران”

 

يلفت في العنوان المذكور أنّه “صياغة مُعاصرة”، وفي ذلك ما يستدعي الإيضاح، وما أظنّ أنّ أحدا سوف يستطيع أن يوضّح ذلك أكثر من مقدّمة المؤلِّف الصائغ.

نحن نعلم أنّ شهرة “رسالة الغفران” لاتحتاج إلى تبيين، فهي قديما وحديثاً من أشهر ماتركه المعرّي من آثار، ويبدو أنّ ماصاغه بلبل، المؤلّف والمخرِج المسرحيّ المعروف في أنحاء العرب، لم تكن المحاولة الأولى، فبحسب ماذكره هو في تقديمه مُفتَتِحا الكتاب أنّ الأديب المصريّ الشهير كامل الكيلاني قد حاول شيئا من هذا، بيد أنّ ماقام به فرحان بلبل كان شيئا فريدا فرادة رسالة الغفران ذاتها، وسوف أقصر الكلام على هذا الانجاز البديع، الذي لم يسبقه إليه أحد، بعيدا عن الكلام عمّا في رسالة الغفران، ولكنْ قبل هذا، أفضّل أن أقدّم شيئا من وصف الكتاب الخارجيّ الصادر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، في قطع متوسّط، يقع في ثلاثمئة وست وتسعين صفحة، بطباعة أنيقة، مشكولة، ويعرف الذين كان اهتمامهم الأوّل في التأليف كم يأخذ هذا من الجهد، وحين يَدخل إلى نصوص الرسالة يضع في الهامش تعريفا كافيا لأسماء الشعراء الذين ترد أسماؤهم،

شكا في البداية الأستاذ فرحان بلبل من صعوبة قراءة رسالة الغفران، كما وصلتْنا، وهو يقابل في ذلك بين كلّ المراجع المهمّة التي تحدّثت عنها، وبسبب هذه الصعوبة فقد أصبحت كتابا مايكاد يقترب منه إلاّ الاختصاصيّون من أدباء وأساتذة جامعة، وتتضاعف غربة هذا الكتاب حين ندقّق فيما وصلت إليه أجيالنا المعاصرة من عكوف عن الثقافة، وأنا واحد من الذين عانوا مشقّة قراءة هذه الرسالة، وقرأتها على دفعات لما فيها من ألفاظ غريبة، بعضها ميت، وبعضها الآخر على سكّة الموت، وقرأتها بشيء من إكراه النفس في العديد من صفحاتها، وربّما أصاب هذا الكثيرون من محبّي قراءة التراث، ولذا عمد فرحان بلبل، كما يقول في التقديم إلى إعادة “صياغة بعض التراكيب والجمل، بحيث تتخلّص من معاظلتها التي كان بعضها دليل الفصاحة والبلاغة في ذلك العصر، وحوّلتُها إلى تراكيب وجمل سهلة هي مقياس الفصاحة والبلاغة في هذا العصر، وذلك دون الإخلال بأسلوب المعريّ أو بأسلوب ابن القارح”.

توقّف بلبل عند الجُمل والتراكيب التي وقف عندها دارسو “رسالة الغفران” و”رسالة ابن القارح، ومحقّقو الرسالتين” وقالوا إنّ المعنى غير مفهوم، وبحسب قوله: “حاولتُ جهدي أن لا أترك جملة غير مفهومة، فتحايلت عليها لأصل إلى معناها من سياق الكلام، ومن الفكرة التي يناقشها ابن القارح أو المعرّي، ولا شكّ أنّ هذا جهد عال، ومتعِب، ومشكور، لتجاوز عقبة وقف عندها أناس مشهورون، واختصاصيّون بارعون، ولأنّ هذا غير متيسّر في الشعر، وهو ماأشار إليه في التقديم: “لايمكن إجراء مثل هذه التغييرات على الشعر، فأبقيت عليه لأنه لايحقّ لنا المساس به، لكنّي قدّمت شرحاً وافيا لكلّ بيت شعري إنْ كان غير واضح المعنى، وهو أمر كثيرا ما هرب منه مَن سبقني في تحقيق (الغفران) أو (رسالة ابن القارح)، ولا شكّ أن في هذا الكثير من المعاناة، والتوقّف، والفحص، والتدقيق، وهو فعل يضع بلبل في مصاف الذين تصدّوا للكلام على هذه الرسالة، وهذا اضطرّ الباحث، إنْ كانت التسمية كافية، لحذف “بعض الجُمل والتراكيب التي لم يتمكّن غيري من الوصول إلى معانيها، كما لم يتمكّن غيري من الوصول إليها، خاصّة وأنّ المعريّ أتى بها على سبيل الأمثولة إغراقاً في استعمال ميّت الألفاظ، فحذفتُها، وهي في مجموعها لاتزيد عن خمسين سطراً أو أكثر بقليل”، تُرى كم يأخذ مثل هذا التدقيق، والمقارنة، والبحث من جهد يشمل كلّ ماكتبه العرب عن رسالة الغفران؟! مثل هذا لايعرفه إلاّ من عانى من مشقّة التأليف، والبحث، والتنقيب، وممّا هو جدير بالذّكر أنّه لم يُحجم، ولم يتردّد في إبداء رأي لايتّفق مع رأي مَن سبقه.

ويتساءل (المُعَصْرِن) لرسالة الغفران، بحذر الواعي المُدرك لما يفعل فيما إذا كان فعله تعدّيا على الآثار؟، ويقارن بين التعدّي على الآثار الماديّة الحضاريّة، ويرفض ذلك، ولكنّه يسوّغ بحقّ ماقام به، ويعدّ ذلك “خدمة للغة العربيّة، ولآثارها النفسيّة، خاصة وأننا لانطالب بجعل النصّ الذي قدّمناه بديلا عن النصّ الأصلي، فما فعلناه ليس إلاّ (تنويراً) للغفران ولرسالة ابن القارح، وعلى مَن يريد اكتشاف ماعصْرنَه بلبل أن يُقارن صفحتين من هنا بصفحتين من هناك، ليطّلع على أهميّة هذا الإنجاز.

إنّ الصياغة المعاصرة لنصّ أبي العلاء المعرّي عمل فريد، ينقله من الرفوف العالية ليضعه حيث يجلس محبّو القراءة، وهو إنجاز له فرادته، ويُضاف بجدارة إلى  ما أبدعه فرحان بلبل في التأليف المسرحي، أو في الإخراج، ولسوف تشكر الأجيال القارئة الجديدة هذا الفعل لصاحبه، ولا يعرف الفضل إلاّ ذووه، وفي النّهاية لابدّ من الإشارة إلى أنّ أسلوب فرحان بلبل السهل، الواضح، اللّيّن، قد انعكس على صفحات ذلك الكتاب.. إنّه جهد شاق، مشكور، سيذكره له من يعرف فضل ماقام به من محبّي الأدب…

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com