دراساتصحيفة البعث

الصين.. “المنافس المنظم”

عناية ناصر

يتعيّن على زعماء أوروبا، المنقسمين حول الصين كفرصة أو تهديد، اتخاذ قرار بشأن الاستفادة من الصراع بين الولايات المتحدة والصين وتحديد خياراتهم. يتميّز العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بنهوض مجموعة من القوى، بعد تلاشي النظام العالمي ببطء في الماضي وتشكيل تحالفات جديدة وتأسيس تحالفات شكّك بها مؤسّسوها. فالولايات المتحدة، وكما يبدو، تتبع سياسة الانعزال، وأوروبا لم تحسم أمرها داخلياً، والصين وروسيا يعزّزان شراكتهما. وفي هذه المعركة من أجل القلوب والعقول والأموال، تبدو العلاقة عبر الأطلسي أضعف بشكل لا سابق له، ولكن هناك جهة فاعلة واحدة يمكن أن تقرّب الولايات المتحدة وأوروبا من جديد.
إن صعود الصين ليس ظاهرة جديدة، فاقتصادها كبير بالفعل كاقتصاد الولايات المتحدة، وعلى مدى العقد المقبل، ستسهم بكين في التجارة العالمية أكثر بثلاث مرات من واشنطن. التحدي الصيني متعدّد الأبعاد بما في ذلك التجارة والقوات العسكرية والتكنولوجيا والقيم. اقترح كيرون سكينر، الذي يترأس التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، أن التنافس الأمريكي مع الصين له طابع حضاري وأيديولوجي. وصفت إدارة ترامب بكين رسمياً بأنها منافس استراتيجي، بينما تصف الإستراتيجية الجديدة الصادرة عن المفوضية الأوروبية هذه القوة الآسيوية بأنها “منافس منظم” مع طموحها لتصبح رائداً لتكنولوجية تروّج لنماذج بديلة للإدارة.
هل يمكن للعامل الصيني أن يكون كافياً بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة للتكاتف وتقديم جبهة موحدة مقابل خصم هائل؟.

كانت واشنطن أول قوة تستجيب للتحدي الصيني بعد فشل حلّ التوترات التجارية المستمرة حول الرسوم الجمركية المتبادلة في المفاوضات. في العامين الماضيين، فرضت واشنطن رسوماً بأكثر من 250 مليار دولار على البضائع الصينية، لكن لم تكن بكين خجولة في الانتقام بزيادة الرسوم المفروضة على منتجات أمريكية الصنع، والتي كانت محدودة من حيث القيمة، لأن الصين لا تستورد ما يكفي لمعادلة الأرقام الأمريكية. إضافة إلى ذلك، وضعت إدارة ترامب شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” على قائمة الشركات التي تحتاج إلى إذن خاص لشراء الرقائق والبرامج ومكونات أخرى من الولايات المتحدة. ومن المثير للاهتمام أن الموجة الأولى من الرسوم الأمريكية، وكذلك اتهامات التجسّس ضد شركة “هواوي”، تشير إلى حقيقة أن واشنطن لم تكن حريصة فقط على تغيير العلاقة التجارية مع الصين، ولكنها تتطلع أيضاً إلى إحباط التحديث التكنولوجي الصيني.

ويبدو أن الاحتكاكات التجارية بين الولايات المتحدة والصين موجودة لتبقى كجزء من الصراع للهيمنة على الساحة العالمية. أما الاتحاد الأوروبي، الذي يتمتّع بأكبر فائض تجاري في العالم، فهو القوة الوحيدة التي يمكن أن تحقق التوازن المحتمل بين واشنطن وبكين، لكن أوروبا غير راغبة في الانحياز إلى طرف حتى الآن. كما أن الانقسامات الداخلية تجاه الصين لا تساعد على ذلك، ففي عام 2016، أعاقت  المجر واليونان -المستفيدان الرئيسيان من الصين- إعلاناً قوياً من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي بشأن عمليات بكين في بحر الصين الجنوبي. من الناحية الافتراضية، يمكن أن يظهر الاتحاد الأوروبي كرابح من صراع شركائه الرئيسيين. وتشير تركيبة صادرات الاتحاد الأوروبي إلى وجود فرص اقتصادية في كلّ من الصين والولايات المتحدة مع تحقيق مكاسب أكبر في الأخيرة. وعلى الرغم من أن أوروبا تصدّر الآن عبر المحيط الأطلسي ضعف ما تصدّره للصين، إلا أنه من المتصوّر أن تدير بكين الدفة ليس فقط في الاقتصاد العالمي ولكن أيضاً في التكنولوجيا -مع الحوسبة الكمية أو القطارات السريعة جداً- والسياسة حيث يفضّل الاتجاه الحالي، كما لوحظ في أوروبا، نموذجاً لحكومة مركزية قوية.

هذا يمثّل معضلة أساسية فيما يتعلق بالتحالفات لصانعي السياسات في بروكسل. قد يبدو الاصطفاف مع الصين، بجانب الفوائد الاقتصادية، منطقياً بالنسبة لأوروبا لأسباب أخرى أيضاً، إذ تشترك أوروبا والصين في مواقف متقاربة بشأن تغيّر المناخ والطاقة النظيفة وقيمة النظام العالمي متعدّد الأطراف، ولكن هناك أيضاً نقاط خلاف. فبعد عدد من الاستحواذات الصينية على الشركات الأوروبية الإستراتيجية مثل ميناء “بيرايوس اليوناني”، وشركة “الروبوتات الألمانية”KKUKA وعناصر شبكة الكهرباء الإيطالية، بدأت أوروبا في التدقيق في الاستثمارات الأجنبية. هناك عائق آخر يتضمن حواجز أمام وصول رأس المال الأوروبي إلى الأسواق وعدم وجود المعاملة بالمثل على الجانب الصيني. ومما يزيد من تعقيد العلاقة الدور المفرط للشركات المملوكة للدولة -حيث تحتفظ بكين بأغلبية 99 في المائة من أكبر 100 شركة عامة- وكذلك نقل التكنولوجيا القسري.

إن المشكلات التي تقسم أوروبا والصين تقرّب الأولى من الولايات المتحدة، لكن من الناحية النظرية يمكن أن يكون الفهم المشترك لقضايا مثل القيم والتجارة والاستثمار والأهمية الجيو اقتصادية لمبادرة الحزام والطريق الصينية أساساً قوياً للتعاون المثمر. ومع ذلك، ولإبرام اتفاق جديد عبر الأطلسي بشأن الصين، ينبغي على الولايات المتحدة، التي يمثلها الرئيس دونالد ترامب، أن يكون أقل عجرفة، وأن أوروبا أقل خمولاً وسذاجة فيما يتعلق بمستقبل التعددية.

لذلك يعدّ الحوار الحكومي الدولي حول الدعم الصناعي بين اليابان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والذي انعقد مرة أخرى في شهر أيار الماضي مثالاً على أنه يمكن لكل من بروكسل وواشنطن أن تعملا معاً في ظل الضغوط الخارجية، حيث تسعى هذه المنصة إلى تقييد المساعدات الحكومية للمؤسسات الحكومية، وهذه المنصة -دون إعلان أهدافها- تستهدف الصين.

هناك أيضاً دور للقطاع الخاص، ففي عام 2018، حقّقت الصين 40 في المائة من المبيعات لمجموعة فولكس فاكن على مستوى العالم. إضافة إلى أن  معظم أجهزة iPhone وiPad من آبل تجد أكبر سوق دولية لها في الصين. يمكن لكلّ من الشركات الأمريكية والأوروبية، ورغم وجود بكين كشريك رئيسي، تسهيل ودفع النقاش عبر الأطلسي إلى الأمام للوصول إلى أجندة إيجابية. الصين من جانبها لا تقف مكتوفة الأيدي، ففي خضم الخلاف بين الولايات المتحدة والصين وتحلّل الروابط عبر المحيط الأطلسي، تسعى بكين إلى تطوير علاقاتها مع روسيا. على هامش اجتماع حزيران الماضي بين الرئيسين شي جين بينغ، وفلاديمير بوتين، وقّع الاثنان اتفاقاً، يسمح من بين أمور أخرى، لشركة “هواوي” بتطوير شبكة “الجيل الخامس” في روسيا.

تسعى الصين وروسيا إلى مواجهة ضغط الولايات المتحدة من خلال رفع مستوى العلاقات الثنائية إلى شراكة إستراتيجية شاملة. في المقابل، تدفع واشنطن خصومها الدوليين الأكثر تطوراً إلى تبني خطاب معادٍ للولايات المتحدة أكثر قسوة.

وخلال القمة، أشار شي إلى أن كلا البلدين لديهما أرضية مشتركة حول مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك التجارة وإيران وبحر القطب الشمالي والإرهاب. فمن جانب، زوّدت هذه الزيارة الصين بمزيد من النفوذ في منافستها مع واشنطن، ومن ناحية أخرى، تمّ إعطاء صنّاع السياسة في الولايات المتحدة تنبيهاً للتفكير فيما يتعلق بخيارات بكين الدبلوماسية وتحالفاتها، بما في ذلك التحالف مع الاتحاد الأوروبي.
لا تزال أوروبا غير متأكدة مما إذا كانت الصين تمثّل فرصة أو تهديداً استراتيجياً. اتخذت واشنطن قرارها بهذا الصدد، لكنها لم تتوصل إلى سياسة شاملة، بدلاً من ذلك ركزت إلى حدّ كبير على التجارة. في الوقت الحالي، تقوم أوروبا بمناورة في المياه الدولية العميقة التي تضعف فيها طوربيدات ترامب على تويتر، من حين لآخر، وتستهدف الرابطة الأطلسية، ويمكن أن يظهر قارب النجاة الصيني كمنقذ للوهلة الأولى فقط. ولكن على المدى المتوسط​​، على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يتعاونا مع بعضهما البعض من أجل تقديم أجندة فعّالة بالفعل تجاه الصين.