ثقافةصحيفة البعث

“قدح مكسور”حيوات مبعثرة وغير المتجانسة

 

تحكي رواية “قدح مكسور” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، المشروع الوطني للترجمة، ترجمة د. زبيدة القاضي، قصة البلد الذي ينتمي إليه مؤلفها آلان مابانكو الكونغو من خلال قصة “حانة لوكريدي” من النسيان، وتتناول قضية الكاتب والكتابة في الآداب الأفريقية الفرانكفونية المعاصرة، وهي بذلك -أي بتقديم الكتابة من خلال التخييل- تقع في قلب المسألة الأساسية التي تواجه كل كاتب ينتمي إلى بلد فرانكفوني من المستعمرات السابقة. إن هذا الأدب الممهور بخاتم ثنائية “المهيِمن- المهيَمن عليه” والمكتوب بالإضافة إلى ذلك باللغة الفرنسية الموروثة من الاستعمار، لا يتوقف عن التساؤل حول وضع الكاتب والكتابة، وحول مهمته في التصوير، كما عن مكانته في الآداب الأخرى، وذلك بسبب قلة الاعتراف والتشريع، إضافة إلى أن هذه الرواية تتفاعل مع مسألة “إرادة التصوير التي هي أساس إرادة الهدم، ويقصد بذلك أن يحول الكاتب بعنف شيئاً ما إلى لا شيء” ويشيد بهذه الإرادة مشروع “التحول إلى الذاتية”، أي أنه كانت هناك إرادة الإلغاء الضمنية من جهة المهيِمن آنذاك، وتقع رواية “قدح مكسور” للمؤلف آلان مابانكو ضمن هذا المنظور في ترميم الهوية وتشريعها.
إن فعل العرض الأدبي لدى الكاتب يتكون عبر استحالة منحه مكانة حقيقية، ويظهر ذلك بوضوح لدى الكاتب الفرانكفوني الذي يعيش في شكل من التناقض الوجداني بانتمائه من حيث ثقافته إلى الجزء الغربي، وانتمائه من حيث أصوله إلى ثقافات متعددة، وأماكن جغرافية متعددة، حينها تزعزع فكرة العرض التصوير الذي نقوم به عامة لمكان يحتوي على داخل وخارج، وهكذا يمكننا أن نعدّ الأوساط الأدبية حدوداً. إن صورة الكاتب في “قدح مكسور” تثير من جديد وعلى نحو مختلف تلك القضية لدى الكاتب الفرانكفوني من حيث فضاءات انتمائه وفعل الكتابة لديه.
منذ بداية الرواية يمثل “قدح مكسور” بطل الرواية وراوي القصة في آنٍ، صورة غريب الأطوار تلك، والهامشي والشاذ التي يشترك فيها مع شخصيات الرواية كلها، بالإضافة إلى الوضع الذي يبحث عنه الكاتب الفرانكفوني المتحرر من اعتبارات اكتساب المشروعية كلها، ومن الروابط الجغرافية انطلاقاً من هذه الغرابة يطلب “الحلزون العنيد”، صاحب الحانة من “قدح مكسور”، أو يصدر أمره بكتابة مذكرات حانته: “قدح مكسور أود أن أصرح لك بشيء يؤرقني، فأنا في واقع الأمر أفكر منذ مدة طويلة بشيء مهم، عليك أن تكتب أقصد أن تكتب كتاباً” منذ ذلك التصريح ستكون شخصية الكاتب غريبة الأطوار لكنها دقيقة الملاحظة، مهمة جمع حيوات الشخصيات كلها، ما يقدم رواية لا تزال قيد الكتابة، إن كتابة الكتابة هذه التي تصبح الفعل التخييلي الأكثر دلالة بما يخص جمالية القصة، تتحقق في صيغة من السخرية المتمثلة بالغرابة والشذوذ، وبذلك فإن مهمة قدح مكسور كتابة مذكرات حانة “الدين سافر”: كتاباً يتحدث عن هذا المكان الفريد في العالم” إن مذكرات الحانة تصبح مذكرات الكتابة عامة، وهنا نلاحظ أن الحانة ليست شيئاً معروفاً وأولئك الذين يرتادونها يشكلون جمهوراً مبعثراً، ومن ثم فإن هدف الرواية جمع تلك الحيوات المبعثرة وغير المتجانسة.
ليست الصورة التي تقدمها شخصية قدح مكسور هنا صورة الكاتب الذي لا يجد مكانه في المجتمع، بل صورة شخص غريب الأطوار يجمع في دفتره حياة أفراد هامشيين، وذلك لأن الحانة تصبح بشكل ما مكان للقاء، أليست هذه الحالة شبيهة بظرف الكاتب الفرانكفوني المعاصر؟.
وتضاف إلى صورة الكاتب المنهمك في الكتابة تلك صورة القارئ –كاتب يلهو بقراءته، وهكذا فإن المقبوسات التي تأتي في شكل جمل متتالية أو جمل متباينة أو متكررة تشكل النص الثاني حيناً ثم النص الأول في أحيان أخرى، بالمعنى الذي عبّر عنه جيرار جونيت وهي غزيرة في الرواية ما يشكل عملية ديناميكية في الإبداع.
في قدح مكسور تقدم المقبوسات في أغلب الأحيان بشكل تلميح ما يدل على ما كان رولان بارت يصفه بخصوص الكتابة بـ”فعل تضامن” يمكن لنتيجته أن تكون صياغة أو إعادة صياغة تشويهاً أو تغييراً، وتشكل المقبوسات هكذا في الرواية جمعاً غير متجانس من حيث الأصول المتعددة كما المتنوعة، فتشكل لعبة بالمعنى الذي يطلق عليه الكاتب كومبانيون “احتفالية” مذكراً بالتقليد القديم اللهوي للمقبوس لدى الإغريق أو ما يسميه الكاتب مبيمبيه “الخيال الاحتفالي”، وتبدأ اللعبة في قدح مكسور بداية بجمل جاهزة “كليشيهات” مثل الجملة الآتية في بداية الرواية: “صاحب” الدين ممنوع: لا يحب الصيغ المسبقة من نوع” في إفريقيا حينما يموت عجوز، يعني أن مكتبة تحترق” ثم يتبع تعليق صاحب الحانة: “هذا يتوقف على أي عجوز هو المقصود، أوقفوا إذاً حماقاتكم فأنا لا أثق إلا بما هو مكتوب” وهكذا في جملتين فقط تتحول جمالية الشفهي كلها إلى سخرية بتقديمها من خلال منظور محاكاة الجملة الجاهزة وتقدم الكتابة بوصفها وحدها القادرة على الحفاظ على الذاكرة، بعد ذلك ينفذ الكاتب التفافة على كلمة “زولا الشهيرة “أنا اتهم” وتأتي هذه الالتفافة في شكل توليفة، والمحاكاة هنا تقوم على إعادة الصياغة والمقصود نص إميل زولا في سياق محدد جداً من تاريخ فرنسا السياسي في القرن التاسع عشر، لكنه يستخدم هنا في سياق أفريقي للقرن الواحد والعشرين وفي كفاح لأجل افتتاح حانة مع إجراء التغييرات الضرورية، والملاحظ أن إعادة الصياغة بغزارة أيضاً في جمل قصيرة، فالتلميحات تعمل أيضاً في شكل إدماج جملة في عنوان كتاب، وهذا ما نلاحظه عندما يتحدث الكاتب قدح مكسور عن الأكاديمية الفرنسية. وفي النهاية يبقى اللقاء بين الماضي والحاضر دون أي تغيير في القيمة، فثمة بالطبع تملك للماضي وقبوله وإلحاقه بالعمل الجديد كأنما يتقصد الكاتب أن يقول لنا أن الأدب قبل كل شيء عمل جماعي و”تضامن” بحسب تعبير بارت.
إن التلميح إذاً إلى عدة أعمال أفريقية وأوروبية أحياناً بطريقة إبداعية طريفة يحدث انتقالاً من الجدي إلى غير الجدي، ويضمن هذا الانتقال أيضاً الخديعة البصرية، ويلعب التلميح هكذا على الموهِم، ويجعل من مدفن العظماء المنظّم جيداً لدى الآخرين، مقبرة جماعية يتفكك فيها الإرث ويتفسخ، وتعد هذه العملية التناصية عملية لحم للفضاءات وأحد أشكال التهجين ومنطقة تماس “بحسب تعبير غليسان” في آن وذلك بإبداع عوالم خيالية مهجنة وغير متجانسة.
جمان بركات