الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

قصف “بارتي”!؟

 

د. نهلة عيسى

ليلة السبت الماضي كان كل شيء في دمشق يبدو متسكعاً, حيث يجب الهرولة, وهامساً حيث يجب الصراخ بما لا يتيح لأحد التخيل للحظة أن هناك شيئاً ما يمكن أن يمس باعتيادية اليوم, ونمطيته, وفجأة داهم أسماعنا صوت انفجار زاعق تلته انفجارات, وواجهت أعيننا بقعة ضوء هائلة غطت سواد الليل, وتطاولت إلى الغيوم في السماء تنازعها المكان!؟
كانت الساعة تقارب منتصف الليل, وكنت بصحبة جارتي نلقي النكات حول آب اللهاب, الذي كشف الحجاب, وذوب مكياج الفاتنات, فبدوْنَ “الباربيات” المعتادات “جعفر” لكن دون سلاح, عندما تعالى صوت الصواريخ في السماء, فصمتنا بلا اتفاق, ووقفنا على الأقدام ظناً منا أن الانفجار حتماً في عمارتنا, وسارعنا إلى التلفاز نتوسل خبراً يفسر ما الذي جرى, وعندما بدأت تتصاعد من الأرض الصواريخ وقبل أن تخبرنا وسائل الإعلام, أدركنا أن القصف صهيوني, فاسترخينا بغتة, وبلا مبرر ضحكنا, وبدوت حينها أنا وجارتي كمن يمثل أدوار المُعِيدين المُبتهجين في مسرحية مدرسية مقررة, ثم ضحكنا أكثر لأننا ضحكنا, وتساءلنا ما الذي يُضحك فيما حدث, رغم أنه مخيف!؟ وأجبنا تقريباً بصوت واحد: بجد كثرة القصف تقلل الهيبة!! وما لم نقله, لكنه في العقل كامن: معرفة العدو طمأنينة وراحة, ولذلك بنو صهيون بالنسبة لنا غير مخيفين, الخوف رفيق الجهل بالعدو, ولذلك ربما خوفنا على مدار الثماني الماضية, أن العدو كان منا وفينا, ولكننا لم نكن نعرف من, ولذلك كلنا كنا بالنسبة لبعضنا في دائرة “من”!؟
غادرت بيت جارتي, وسارعت للنظر نحو الأعلى كالباحث عن مربع صغير من زرقة السماء, لأفاجأ بأن حفلة القصف انتهت, وللغرابة حزنت, وكأنها كانت بعضاً من أحلامي, أو كأنها لم تكن, فسألت على هاتف بعض أصدقائي ممن في مواقع الرد على القصف: ماذا جرى؟ فجاوبوني ببرود المعتاد على ما جرى: كالعادة ردت حطاماً إلى أصحابها, فأصابني الهلع.. ترانا وصلنا مرحلة في الوجع أن القصف علينا بات مجرد حفلة شهب مضيئة تعبر سماء أيامنا المثقلة بكوابيس العيش اليومي, حيث القلة حمَّلت الأغا منا السلة, وحيث القصف على مدار الثواني!؟. ازدادت أنفاسي ضيقاً وسط الغابة المعدنية المسكونة بالجنون, بعد انتهاء “بارتي” الاعتداء علينا, والذي ذكرني بما كانت عليه هذه الشوارع فيما مضى, واحة طمأنينة جامعة لكل من حضر, وأرض لجوء ولو مؤقت, خارج الزمان والمكان المسمم باللهاث إما وراء اللقمة, أو خلف التسوق, حيث هذا هو جوهر الاختلاف الحقيقي بين البشر, وليس الخلاف المفروض المفترض حول محمد ويسوع, أو علي وعمر!!.
ازدادت أنفاسي ضيقاً بعد مشاهدة أخبار التلفاز عن ما جرى, لأنه عمق إحساسي بأنني أؤدي دوراً في مسرحية, لأنه ليس ثمة ما هو أكثر غروراً وزيفاً, وربما ما هو أكثر ضرراً، من توظيف قيم وتفاصيل وأساسيات حياة الناس لصالح الترويج السياسي والإعلامي, مما يدفع الواحد منا للشعور بأن حياته هو ما يعرض عليه, وليس ما يعيشه ويعانيه, وأن حزنه, وربما يأسه, أو عزلته, أو قلة حيلته, هي مشاكل فيه, وليس في واقعه, وما هو مفروض عليه!.
ازدادت أنفاسي ضيقاً, لأنني ككل من في بلادنا, رغم رغبتي الشديدة بالفرح, لا أريد أن أدعي الفرح, ولا أن يقدم لي كوجبة “تيكاواي” أرمم بها مرحلياً جوعي وجروحي لحين أن يقرر آخرون لنا أنه لا مانع من أن نعود إلى الفرح, بعد أن باتت أيامنا صقيعاً, وبعد أن تجلدت قلوبنا غربة, وتساقطت كالدمى الخزفية فوق قبور أحبتنا, وبعد أن تكسرت أنفاسنا على أرصفة الشوارع تزعم أنها تتريض, وبعد أن اعتدنا التنهد ارتياحاً حين نعبر ضفة شارع إلى آخر, ظناً منا أنه خاتمة الأحزان, أو نجاة مؤقتة من حفلة قصف, في كل حين محتملة, لأن العدو ليس في السماء, بل فينا وفينا!؟.