دراساتصحيفة البعث

تحديات معاصرة

علي اليوسف

لم يكن هدف دول الاستعمار القديم- بحسب سايكس بيكو- تقسيم الشرق الأوسط إلى دول، بل كان هدفه تقسيم المنطقة إلى أكثر من ذلك، إلى دويلات طائفية لتبقى في حروب لا تنتهي. قبل مئة عام اعترضت فرنسا على التقسيم الذي اقترحته اتفاقية سايكس بيكو مدّعية أنها تمتلك حقاً تاريخياً يشمل سورية الطبيعية رداً على المشروع الإنكليزي، والسؤال هل قرأ الغرب جيداً بنية مجتمعات الشرق الأوسط؟ الجواب نعم، فالغرب يقرأ كثيراً لأنه يبحث عن موارد في العالم، والمنطقة العربية هي مكان مهم لهذه الموارد وللحصول عليها لا بد من إيجاد الأسباب لكي ينقض على هذه المنطقة. واليوم تعيش هذه المنطقة أسوأ فترة في تاريخها كون الإنسان العربي لم يخرج من عقلية القبيلة التي تسهل شرذمتها.

بعد مائة عام ونيّف على هذه التقسيمات السياسية، هل تحقق الحلم الغربي في جعل الاقتتال داخل بنية هذه المجتمعات أمراً واقعاً وصولاً إلى تأبيده؟ نعم، الغرب نجح ووقع العرب جميعاً في فخّ الغرب حتى أضحى فريسة للغرائز وللعصبيات، ولم يفكر أحد يوماً بخلق مجتمع منفتح بعضه على بعض، وبخلق مجتمع يقوم على التعدّدية واحترام الرأي الآخر. لذلك هناك تحديات تعترض بلدان الشرق الأوسط حالياً خارج ما يحصل من اقتتال، وأهمها التحديات المعرفية، لأن هذا الغرب الذي ينادي بالقِيَم هو أبعد ما يكون عنها، وهو يسعى للحفاظ على التفقير المعرفي الممنهج بهدف نهب خيرات هذه المنطقة، وعلى هذا الأساس لم تتوقف الحروب في المنطقة، ومن هنا فالتحدي الأبرز هو معرفياً وعلمياً إذ لا بد من إعادة تربية الإنسان العربي وإدخاله في الحداثة، ولكي يدخل في الحداثة لا بد له من خلق مدارس قوية تعلّمه المعرفة الصحيحة وليس المعرفة الأحادية ، بل لا بد من معرفة علمية، فلسفية، أدبية كون هذه العلوم مفقودة في البلاد العربية، والسبب أن بُنية المجتمعات العربية مازالت تركز على مفهوم الأقليات والأكثريات وهي مشكلة خلقت في منطقتنا.

في أوروبا هناك أقليات ولكن إلى حد ما هناك حسن إدارة لهذه المجتمعات الأوروبية، على سبيل المثال سويسرا.. هي مجموعة شعوب وتدير ذاتها بطريقة حضارية لأنه لا يوجد في سويسرا ما يسمى لغة الاستقواء والاستعلاء والعدد الديموغرافي بعد خروج الأوروبي من هذه العقلية، أما هنا في هذه المنطقة لا نزال أمام هذه المشكلة الكبيرة بحيث ما إن تقوى جماعة على أخرى سواء أكان عددياً أم قوّة أو أي شيء آخر حتى تجتاح وتعيث فساداً بالآخرين.

من هنا بات مفهوم التعدّدية في المجتمع موضوعاً إشكالياً لأن التعدّدية تعني للبعض نوعاً من التفتيت الاجتماعي خاصةً في الوطن العربي، لكن هناك ما يسمى بالهوية كمنطلق لكل جماعة، وهناك أمور مشتركة يجب أن تظهر بين هذه الجماعات، وإن لم يتم إظهار هذه الأمور المشتركة فهذا سيقود إلى الفشل والتشتت. حتى التعددية القومية، لماذا لا يكون هناك ما يسمى بالخصوصية ضمن الدولة الكبرى كما حصل في سويسرا؟.  تقوم سويسرا على الاقتصاد والنمو المتكافئ عند الكل أي لا تجد فرقاً بين المنطقة الفرنسية والمنطقة الألمانية والمنطقة الإيطالية، وهذا ما نفتقده بين الدول العربية بسبب التفقير والتجهيل الممنهج من قبل الغرب الذي يؤهله للتلاعب بأية جماعة ويأخذها إلى حيث يحقق مصالحه.

في كتابه “الهويات القاتلة” تناول أمين معلوف موضوعاً بالغ الحساسية عندما قال:
” منذ أن غادرت لبنان للاستقرار في فرنسا، كم من مرة سألني البعض كنت أشعر بنفسي فرنسياً أم لبنانياً. وكنت أجيب سائلي على الدوام: “هذا وذاك!”، لاحرصاً مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك. فما يحدد كياني وليس كيان شخص آخر هو أنني أقف على مفترق بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدد هويتي…”. يتساءل أمين معلوف، انطلاقاً من سؤال عادي غالباً ما طرحه عليه البعض، عن الهوية، والأهواء التي تثيرها، وانحرافاتها القاتلة. لماذا يبدو من الصعب جداً على المرء الاضطلاع بجميع انتماءاته وبحرية تامة؟ لماذا يجب أن يترافق تأكيد الذات، في أواخر هذا القرن، مع إلغاء الآخرين في أغلب الأحيان؟.

وبقراءة متأنية لبنية المجتمعات  العربية نرى أن هناك هويات صغرى وهويات كبرى، هناك هويات دينية، هناك هويات ثقافية، فالهوية مُتعدّدة أي الانتماء إلى جماعة التي هي جزء مهم من هوية الفرد، والجزء الآخر هو الانفتاح على الثقافات التي تحيط بالشخص. أمين معلوف يقول: “أنا لبناني، أنا فرنسي، أنا غربي، أنا عربي لأن كل هذه الثقافات باتت جزءاً مني”.  ما يعني أن للكل هويات في هوية واحدة إذا انفتح الشخص على كل الجماعات التي يعيش معها، لكن عند رفض هذه الهويات تتحول إلى هويات قاتلة، وهو ما حصل في البوسنة والهرسك الذين تقاتلوا بطريقة مميتة، ما استدعى تدخل أوروبا بغض النظر عن المصالح والاصطفافات السياسية والاجتماعية، وخلقت دولة البوسنة والهرسك التي تضم تجمعات ضمن دولة واحدة، فهم وجدوا الحل الأقرب للتعايش في الاندماج وهذا يتطلب نوعاً من الرقي ومن الوعي في احترام الإنسان وفي احترام دين الآخر.

في المقابل ما زال الإنسان العربي وليس الجميع، يحتاج لمن يعلمه، لمن يفكّر عنه. الشيخ عبد الرحمن الكواكبي مثلاً وهو من الأشخاص الذين تركوا أثراً كبيراً في مطلع القرن العشرين قال: “هناك استبداد الجهل على العِلم واستبداد النفس على العقل”. ما يعني أن المشكلة في العالم العربي هي عدم الدخول في حركة التاريخ المتطور. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت هناك دعوات، كانت هناك مقالات أقرب ما تكون نُذراً لنهضة، هذه النهضة تراجعت بسبب فقدان التربية الصحيحة في العالم العربي، والجهل المطبق على المواطن العربي. وحتى الآن يبدو أن العالم العربي عاص على التنوير، صحيح أنه دخل في التكنولوجيا ولكن العقلية لم تلحق بالتكنولوجيا، ولم نشهد حتى الآن عقلية تتطور مع تطور التكنولوجيا كما حصل في الغرب وفي دول كثيرة في العالم. العالم العربي ما برح أسير ماضيه، يتغنّى بماضيه، قد يكون هذا التغنّي بالماضي للتصدّي للفورة الغربية والهجمة الغربية عليه ولكن ليس هكذا نتصدّى للغرب، علينا أن نتصدّى للغرب بطريقة جديدة من خلال الإبداع، من خلال مساعدة المفكّرين في العالم العربي على إيجاد أماكن الأبحاث، والمؤسّسات البحثية. يجب أن يكون الحوار الناظِم الأساسي لسياقاتنا الفكرية والاجتماعية وضمن المجتمع نفسه، لأننا لسنا بعيدين عمّا يحصل في العالم من هنا لا بد من إعادة النظر في عقل الإنسان العربي.