دراساتصحيفة البعث

سامنثا باور مثال للدولة العميقة في أمريكا

أمجد السعود

سامنثا جين باور” إيرلندية مهاجرة للولايات المتحدة الأمريكية، صحفية ودبلوماسية وناشطة في حقوق الإنسان، لمعت كصحفية خلال تغطيتها لحروب يوغسلافيا ليتمّ بعد ذلك تقليدها منصب المدير التنفيذي لمؤسسة (كار) لسياسة حقوق الإنسان في جامعة هارفارد. تركز نشاطها في الفترة الأخيرة حول التأكيد على الحريات الدينية للأقليات، إحدى الشخصيات المهمّة والفاعلة في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما والذي عُرف بحذره الشديد منها، وبشكل مفاجئ خرجت بتصريح وصفت فيه هيلاري كلينتون “بالوحش”، الأمر الذي جعل من أوباما يخرجها من دائرة الحملة الانتخابية له ومن أسماء تشكيلته السياسية التي كان يخطّط لها. لكن ماهي القوة التي جعلت من باراك أوباما يعيد باور إلى دائرة اهتماماته السياسية بعد نجاحه في الانتخابات، ووضعها في مكان من المفروض بأنه أحد أكثر الأمكنة نطقاً بلسان حال السياسة الأمريكية الخارجية؟ حيث تقلّدت منصب السفير العام للولايات المتحدة الأمريكية في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

لنعد بالتحليل إلى طبيعة السياسة الأمريكية وإلى تلك “الشمّاعة” التي لطالما استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على اختلاف قياداتها السياسية بضفتيها الجمهورية أو الديمقراطية، وتتالي تسليم واستلام المهام والأدوار السياسية الداخلية والخارجية لكلا الطرفين، فهم ليسوا سوى منفذين لأدوار مرسومة سابقاً من قبل مجاهيل المعادلات السياسية الأمريكية، وبالأخص السياسة الخارجية، سواء في مسارها أو في إيكال مهامها لشخصيات اعتبارية في المظهر الخارجي والسيرة الذاتية، وكأن تجميل هذه الشخصيات وتلميعها أمر مرسوم ومخطط له، وما هو إلا وسيلة للوصول إلى الهدف، وهو القيام بتمثيل الدور كما هو مكتوب في سيناريوهات الحدائق الخلفية للبيت الأبيض.

إن إيكال هذه المهمّة إلى سامنثا باور في هيئة الأمم المتحدة واختيارها كناشطة سابقة في حقوق الإنسان لم يأتِ بمحض المصادفة، خاصةً بعد استبعادها من التشكيلة السياسية لفريق أوباما في ملعب السياسة الأمريكية الخارجية واختلافه معها في كثير من الأمور. نجحت سامنثا باور في الحصول على موافقة مجلس الأمن لمشروع القرار الذي ينصّ على ضرورة التدخل العسكري في ليبيا بذرائع إنسانية تحمل شعارات حماية المدنيين من بطش نظام معمّر القذافي، وأقنعت أوباما بضرورة التدخل عسكرياً، وهنا بدأت باور تمارس الدور الموكل لها، بإقناع الرئيس الأمريكي أوباما والذي جاء إلى الرئاسة “بسياسة اللا حروب” وخداع المجتمع الدولي بذرائع الإنسانية وحقوق الإنسان مع الشخصية الدبلوماسية الاعتبارية التي كانت تمتلكها فيما سبق في منظمات حقوق الإنسان، والسؤال هنا: كيف لامرأة ناشطة في مجال حقوق الإنسان بمؤلفات انتقدت بها حتى السياسة الأمريكية بعدم تدخلها في الإبادات الجماعية التي قام بها الصرب ضد مسلمي البوسنة أن تنتقل إلى امرأة تمثّل رأس الحربة الأمريكية لدى مؤسسات المجتمع الدولي في الحثّ على التدخلات العسكرية الهمجية في ليبيا؟!.

أما فيما يتعلق بموقف سامنثا باور من الأزمة السورية، فقد كانت شديدة التعصب لاتخاذ إجراءات عسكرية ضد الجيش السوري، وحاولت لمرات عدة طرح عدد من مشاريع القرارات في مجلس الأمن تبيح ذلك تحت الفصل السابع، ومارست شتّى أنواع الضغوط الدبلوماسية للحصول على ذلك، ولكنها اصطدمت بالفيتو الروسي والصيني الذي جعلها تستاء جداً وتخرج عن طورها وتصدر الاتهامات للدبلوماسيين الروس والصينيين بدعمهم “للإرهاب” على حدّ قولها. لتطالب بعد ذلك بمنطقة حظر للطيران في شمال سورية بحجة حماية المدنيين، ولتصطدم مرة أخرى بالفيتو الروسي- الصيني المشترك.

وبعد يأسها من تغطية التدخل العسكري بقرار أممي بدأت تمارس الضغوط على باراك أوباما باتخاذ قرار فردي لتكرار السيناريو الليبي في سورية، وفي اجتماع غرفة العمليات الأمريكية الخاصة بسورية استاء أوباما من مطلبها وقال لها: “سامنثا كفاكِ.. فلقد قرأنا كتبك السابقة…”.

ما بين المثالية المدّعاة من قبل باور وواقعية أوباما التي وصفته “باور” بها والتي لم تكن نبلاً منه إلا أنه كان يعلم تماماً تبعات التدخل العسكري في سورية وما سينتج عن ذلك من فوضى، بدأت باور تدرك تماماً بأنها لن تنجح في إكمال الدور المرسوم لها بتكرار السيناريو الليبي في سورية، فلجأت إلى الاستقالة من منصبها في الأمم المتحدة كممثل للولايات المتحدة للضغط على أوباما لتنفيذ ما تطالب به، إلا أن استدعاء أوباما لها وقوله لها: “سامنثا من الصعب الوصول إلى الكمال والمثالية في كل شيء”، جعلها تشعر بأنها فاشلة لا محالة في تحقيق الغاية والهدف الذي تمّ تحضيرها له على صعيد الأزمة السورية، وتابعت عملها بصمت لتركز اهتمامها على الأوضاع الإنسانية في إفريقيا.

تُرى ما السر وراء انقلاب باور من ناشطة لحقوق الإنسان والحريات الدينية للأقليات إلى صانع قرار سياسي بتدخلات عسكرية عمياء لا ينتج عنها سوى القتل والدمار وتكريس لسيطرة الإرهابيين على المنطقة؟؟.

إن تجربة باور في حروب الصرب والبوسنة لا يمكن إلا أن تجعل “بالوضع الطبيعي” منها شخصية قادرة على التمييز بين الإسلام والتأسلم، ورحلاتها في إفريقيا وبالتحديد في نيجيريا (بوكو حرام) لا يمكن إلا أن يجعل منها و”بالوضع الطبيعي” دبلوماسية تفهم معنى الحروب القائمة على فكر العصابات الإرهابية القائمة على أيديولوجيا التطرّف والتعصب الديني، وما ينتج عن ذلك من تدمير للبنى الاجتماعية على مستوى المجتمعات.

نحن أمام حالة أمريكية متكررة من ازدواجية المعايير بين المثالية المزعومة  والواقعية المزعومة في مختلف المناصب السياسية للحكومات الأمريكية المتعاقبة بوجهيها الديمقراطي والجمهوري. مدرستان مختلفتان في الشكل والبناء إلا أن منهجهما واحد وغاياتهما واحدة، يتخرج منهما في أفضل الأحوال منفّذون لأدوار مرسومة من قبل مجاهيل السياسة الأمريكية.