اقتصادصحيفة البعث

القرار (5) القاضي بفتح حساب مصرفي واشتراطه “الإشعار المصرفي” لإتمام عملية البيع والشراء.. تحت المجهر ..! خبير قانوني متخصّص لـ”البعث”: “عبثي” وثغرات كثيرة ستجعل تطبيقه سبباًًً في زيادة النزاعات القضائية..!؟

 

على العكس تماماً من “بساطة” الظاهر شكلاً (للقرار رقم 5 الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 20- 1- 2020، وألزم بموجبه الجهات المشرفة على السجلات العقارية والمركبات، عدم توثيق أي معاملة بيع قبل إرفاق إشعار مصرفي يثبت تسديد ثمنه -أو جزء منه- في مصرف..)، أثار مضمون القرار الكثير من التساؤلات والمآخذ القانونية والدستورية وغيرهما، لدرجة تكاد تكون فيها كل كلمة وجملة فيه، إشكالية بحدّ ذاتها..!؟.
وتأجيلاً للحديث في الناحية المالية التي سيرتبها “الإشعار المصرفي”، التي نعتقد أن غايتها تقديم كتلة مالية على طبق من ذهب ودون أي جهد أو تعب للمصارف الخاصة (التي رحّبت من جهتها بينما اعتذر “أبو المصارف” وهو التجاري..)، نتيجة لفرض فتح حساب مصرفي على البائع والشاري، دون تحديد المقابل المادي لهذه الخدمة المستنبطة، لمثل هذا النوع من البيع والشراء، والتي إن كانت كمقدار ما يدفعه المقترض، حين يريد فتح حساب للحصول على قرض، فلن تكون أقل من 13 ألف ليرة…!؟.
تأجيلاً للآنف وتفاصيله..، سنسلط الضوء على إشكالية مهمة أثارتها ثغرة من عديد الثغرات الواجب إعادة النظر بها، ولاسيما المبلغ المكتوب بالعقد وترك نسخة عنه لدى المصرف، واحتمال الوقوع بمطب المطالبة بالسعر الصوري، واسترجاع المبلغ من المصرف وصعوبته، وكثير من الثغرات التي سنجدها من اليوم الأول لتطبيق القرار تقرع أبواب المحاكم…
الإشكالية تمثلت بما جاء في المادة 4 من التعليمات التنفيذية للقرار والقائلة: “لا تعدّ وثيقة الإشعار المصرفي المرفق مع عقد نقل الملكية أو مع الوكالة العدلية أساساً في تغيير المراكز القانونية لأطراف العقد، حيث لا تعدّ هذه الوثيقة مثبتة بحد ذاتها للملكية، وتبقى سجلات الملكية الرسمية والقيود المدونة فيها، المرجعية القانونية لإثبات الملكية وفق ما تقتضيه القوانين والأنظمة النافذة”.
حول هذه الإشكالية وآثارها..، التقت “البعث” الخبير القانوني وعضو لجنة تعديل قانون أصول المحاكمات بوزارة العدل وعضو اللجنة القانونية ولجنة البحث العلمي بنقابة المحامين، المحامي عارف الشعال، الذي قال بداية: واضح أن الغاية من هذا الإجراء استقطاب الكتلة النقدية الضخمة الناجمة عن هذه البيوع التي يدّخرها الناس (تحت البلاطة) وإيداعها في المصارف، وضبط هذه الكتلة النقدية والسيطرة عليها من خلال عملية التقنين في السحوبات التي تمارسها المصارف الآن بالقطارة.

طرق للالتفاف..؟
وأضاف الشعال: لا أعتقد أن هذا الإجراء سيؤتي أُكله في ظل إحجام الناس عن الإيداع بالمصارف بسبب سياسة سحب الأرصدة التي تتبعها المصارف حالياً، ناهيك عن تهرّب الناس بالأصل من كشف الثمن الحقيقي للمبيع تهرباً من دفع الضرائب والرسوم المختلفة على المبيع، وطرق الالتفاف على هذا القرار كثيرة، منها: الفراغ كعقد هبة وليس بيع، (سيترتب على ذلك زيادة طفيفة في الرسوم العقارية)؛ وأيضاً الاكتفاء بوضع مبلغ رمزي في المصرف كجزء من الثمن (مليون ليرة مثلاً)، ولاسيما أن البيوع العقارية تستنفد معظم ثمن العقار قبل الوصول للسجل العقاري في مرحلة التوقيع على العقد وتسليم العقار؛ وكذلك البيع عن طريق حكم محكمة (دعوى إقرارية) وهذا سيزيد من فرص عمل المحامين بطبيعة الحال…

ليس دليلاً..!
وحول نص المادة الرابعة قال: في الحقيقة هذا النص السيئ لا يخاطب الجهات الحكومية، ولا المواطنين، وإنما يخاطب القاضي الناظر بالنزاع على ملكية بطريقة آمرة بألا يعتمد الإشعار المصرفي دليلاً على وجود عقد البيع لأن المراكز القانونية للأطراف محدّدة بالسجلات الرسمية..!، وكأن القاضي لا يعرف المراكز القانونية للأطراف ولا كيفية تبدّلها ولا يعرف قانون البيّنات وقوة الأدلة والقرائن المقدمة في إثبات الدعوى!؛ وفي حقيقة الأمر وخلافاً لما ورد في هذا النص (العبثي)، إن الإشعار المصرفي على فرض تقديمه كإثبات على وجود عقد البيع في دعوى لا يعتبر دليلاً فيها، وإنما يأخذ حكم القرائن القضائية المنصوص عليها في المادة (92 بينات)، ويخضع من حيث قوّته للسلطة التقديرية للقاضي.
وتابع مؤكداً: في كل الأحوال لن يكون لهذا النص الزائد قيمة أمام القضاء، ولن تأخذ به المحاكم لافتقاده للمشروعية، ولكن المؤسف أن القانونيين الذين وضعوه لم يستشعروا أنهم تجاوزوا فيه على السلطة القضائية، تجاوزاً فجّاً يدل أن باب التدخل بشؤونها بات ثقافة سائدة في بلدنا.

عنصر جوهري..
توضيحاً للقضية الإشكالية، بيّن الخبير قائلاً: من المعلوم أن عقد بيع العقار لا يصنف في الفقه القانوني من بين العقود الفورية أو الآنية الذي يتم تنفيذه فوراً، كمن يشتري سلعة (منقول) من متجر ويدفع ثمنها فوراً، وإنما يصنّف في عداد “العقود الزمنية” أو المتراخية التي يكون فيها الزمن عنصراً جوهرياً، (حسب السنهوري، الوسيط، ج1، فقرة 64 و65)؛ وبالتالي يبنى على ذلك أن عقد بيع العقار كعقد زمني ممتد يُقسم إلى مراحل متعددة خلال فترة زمنية، فهناك مرحلة الاتفاق والتوقيع على العقد يُدفع فيها جزء من الثمن، ومرحلة تسليم العقار ويُدفع فيها جزء من الثمن، ومرحلة الفراغ في السجل العقاري ويُدفع فيها باقي رصيد الثمن، ومن الشائع جداً أن تكون هناك مرحلة رابعة تتعلق بترقين إشارات موجودة على صحيفة العقار.
وهكذا نكون أمام عقد زمني متراخٍ ذي “التزامات متقابلة” يقوم فيها المدين (البائع) بتنفيذ التزام، فيقوم الدائن (الشاري) بتنفيذ التزام مقابل (تسديد جزء من الثمن)، وهذه المسألة تحكمها المادة 162 من القانون المدني.
أمّا وقد خطر على بال مجلس الوزراء في قراره الذي يحمل الرقم 5، أن يتدخّل في إرادة المتعاقدين وحريتهم في التعاقد، وفَرَضَ عليهم بطريق الاستحكام والقسر مرحلة جديدة في التعاقد، ألزم فيها الدائن (الشاري) بدفع جزء من الثمن في مصرف معتمد دون التزام متقابل يقع على عاتق المدين (البائع)، ولهذا السبب نصَّ القرار على وجوب دفع الثمن أو جزء من الثمن لأن المجلس يعلم أو من المفروض أن يعلم أن عقد بيع العقار عقد زمني وليس فورياً يستحيل فيه دفع الثمن كاملاً مرة واحدة.

كان عليه..؟!
وحول ما كان معوّلاً على المصرف المركزي لحظه في التعليمات التي أُنيط به إصدارها، أكد أنه كان عليه أن يلحظ في تعليماته الموجهة للمصارف، أن قيام الشاري بدفع جزء من الثمن في المصرف لا يقابله التزام نظير من البائع يتوجب عليه القيام به سوى الفراغ في السجل العقاري، أي أنه يأتي بالمرحلة الأخيرة من عملية البيع التي تسبق الفراغ، ما يعني تعرض الشاري لخطر نكول البائع عن تنفيذ التزامه بالفراغ في الفترة الزمنية الفاصلة بين الإيداع بالمصرف والشخوص للسجل العقاري للفراغ، وبالتالي كان يتوجب على “المركزي”، أن يضمّن تعليماته التنفيذية، نصاً يجعل هذا الجزء من ثمن المبيع المودع في المصرف كشرط للفراغ، مودع ضمن حساب خاص لا يستطيع البائع التصرف فيه بالحساب وسحب المبلغ قبل إبراز وثيقة تشعر بإتمام الفراغ ضمن مدة متفق عليها مع الشاري، تحت طائلة حق الشاري باسترجاع المبلغ إذا لم يبرز البائع هذه الوثيقة ضمن المدة المتفق عليها، وبذلك يوفر على الشاري مخاطر النكول عن الفراغ، وسلوك طرق الخصومة البغيضة.

الحماية أهم من الرعاية
وحول واجب الدولة في رعاية حقوق رعاياها، استند الشعار في هذا إلى رأي الأستاذ الكبير شاكر الحنبلي، وزير المعارف، فبحسب كتابه “الحقوق الإدارية”، ج1، طبعة 1928، ص 36، يقول الحنبلي: “إن حماية الحقوق فوق رعايتها، وهذه هي الصفة التي تميّز واجبات الدولة عن واجبات الفرد، فالفرد مكلف فقط برعاية حقوق الغير لا بحمايتها، لأن قدرته لا تصل إلى هذا الحد، كما أنه محروم من الوسائط التي تمكّنه من تحقيق هذه الحماية، ولكن الدولة مكلفة برعاية حقوق الرعيّة وفي الوقت نفسه مكلفة بحمايتها من كل عدوان، ولها من الوسائط ما يمكّنها من القيام بهذا الواجب”.

مطبّ كبير..!
لنخلص إلى نتيجة مفادها أن مصرف سورية المركزي لم يقم بواجبه في حماية حقوق الشاري في عملية التعاقد، وهذا مَطَبٌّ كبير مؤسف وقعَ فيه نضعه برسم الحقوقيين الذين أعدّوا هذه التعليمات التنفيذية..!.
قسيم دحدل
Qassim1965@gmai.com