دراساتصحيفة البعث

سياسة الاغتيالات الأمريكية تخرج إلى العلن

سمر سامي السمارة

ذكّرت صيحة الغرور التي أطلقها ترامب، احتفاءً باغتيال الجنرال سليماني الشهر الماضي، العالم بأن حكومة الولايات المتحدة هي حاملة الرقم القياسي العالمي، سواء في التنفيذ المباشر أو بالتنسيق مع أطراف أخرى باغتيال الزعماء السياسيين، الأمريكيون منهم والأجانب.
كانت تكسو معظم الاغتيالات التي تأمر بها أجهزة الاستخبارات الأمريكية في الماضي قشرة “سياسة النكران المعقول”، وحتى مع نشر ملايين الوثائق الاستخباراتية السرية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تواصل تلطيها وراء واجهة سياسة النكران المعقول. إلا أن أوامر ترامب للجيش الأمريكي باغتيال سليماني لم تكن علنية فحسب، بل تضمنت أيضاً برنامج اغتيال دولي كبير استهدف أبو مهدي المهندس القائد العراقي لقوات الحشد الشعبي.
يستطيع المراقب ملاحظة الشبه المخيف لبرنامج ترامب للاغتيالات مع الخطة التي طوّرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في العام 2001، التي كانت نتيجة للضغط القوي الذي مارسه نائب الرئيس “ديك تشيني”. وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تستهدف عملية تشيني التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية قادة تنظيم “القاعدة” لاغتيالهم، إلا أنها اقتربت على نحو خطير من انتهاك سلسلة من الأوامر الرئاسية الصادرة عن الرؤساء جيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان والتي تحظر اغتيال مسؤولين حكوميين أجانب، إذ ينصّ أمر “ريغان” التنفيذي رقم “12333”، والذي استكمل تنفيذ أوامر فورد وكارتر، على ما يلي: “لا يجوز لأي شخص موظف لدى حكومة الولايات المتحدة، أو يعمل باسمها، أن يقوم بالاغتيالات، أو يتآمر لتنفيذها”، إلا أن أوامر بيل كلينتون وجورج دبليو بوش جعلت الأمر التنفيذي هشاً، إذ سمحت الأوامر الرئاسية المخفّفة باغتيال قادة إرهابيين محدّدين بشكل خاص.
وفي شهر حزيران من العام 2009 ألغى مدير وكالة الاستخبارات المركزية ليون بانيتا برنامج الاغتيال بسبب عدم شرعيته، لكن تشيني أخفى وجوده عن المنظرين في الكونغرس ليحتفظ ببرنامجه الخاص بالاغتيالات.
اعتمد برنامج “تشيني” على طائرات مسلحة مسيّرة لتنفيذ عمليات اغتيال قادة إرهابيين مفترضين. وبالاغتيالات التي أمر بها ترامب لسليماني والمهندس اللذين حاربا “داعش” وغيرها من المجموعات الإرهابية في العراق وسورية، يبدو أن برنامج تشيني القديم قد أُعيد تشغيله، لكن هناك فرقاً كبيراً بين اغتيال قادة تنظيم “داعش” وقادة القوات العسكرية الحكومية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة مثل إيران والعراق.
أصدر الرئيس فورد أول أمر رئاسي ضد الاغتيالات الأجنبية في العام 1976 بعد أن أصبح تورّط وكالة الاستخبارات المركزية في اغتيالات رئيس الوزراء الكونغولي باتريس لومومبا ورئيس جنوب فيتنام نغو دينه ديم ورئيس جمهورية الدومينيكان رافائيل تروخيو ورئيس تشيلي سلفادور أليندي.. ومسؤولين أجانب آخرين علنياً. فقد أظهرت التحقيقات التي أجراها مجلس الشيوخ ومجلس النواب ولجنة روكفلر أن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو تعرّض مرات عدة للاغتيال من قبل وكالة الاستخبارات المركزية.
أجرت لجنة مجلس النواب الأمريكي المنتخبة للتحقيق بالاغتيالات دراسات وجلسات استماع حول اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963 واغتيال الدكتور مارتن لوثر كينغ عام 1968، إلا أنّ اللجنة التي لم تتلقَ تعاوناً كاملاً من الاستخبارات الأمريكية ولجان إنفاذ القانون الاتحادية، التي خلُصت إلى أنه تمّ اغتيال كينيدي وكينغ نتيجة مؤامرات على الأرجح، لم تبحث اللجنة عن أدلة على وجود مؤامرات أوسع نطاقاً تورطت فيها الإدارة الأمريكية في اغتيال السيناتور روبرت كينيدي في حزيران 1968، أو تحطم الطائرة التي أودت بحياة رئيس اتحاد عمال السيارات في الولايات المتحدة والتر رويتر في العام 1970، أو محاولة اغتيال حاكم ولاية ألاباما والمرشح الرئاسي جورج والاس في العام 1972.
سينطوي استكمال اللجنة لتحقيقها على أسئلة مستقبلية حول استخدام الاستخبارات الأمريكية عملاء لتنفيذ الاغتيالات السياسية المحلية، بما في ذلك اغتيال الموسيقي الشهير “جون لينون” في العام 1980 ومحاولة اغتيال الرئيس ريغان في العام 1981. كلاهما، وكذلك السيناتور روبرت كينيدي يحمل توقيع استخدام القتلة المبرمجين مسبقاً، والذي كان سمة بارزة في عملية السيطرة على العقل التي أطلقت عليها وكالة الاستخبارات المركزية اسم “مك الترا”.
أشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى أن إدارة ترامب لم تقم بإعادة سياسة تشيني الخاصة بالاغتيالات المستهدفة فحسب، ولكنها تحتفظ بحقها في تنفيذ عمليات اغتيال “منافسين” آخرين لمصالح الولايات المتحدة. وفي خطاب ألقاه في معهد “هوفر” بجامعة ستانفورد بعنوان “استعادة قوة الردع: المثال الإيراني”، شدّد بومبيو على أن قادة إيرانيين إضافيين، بما في ذلك المرشد الأعلى آية الله خامنئي، إضافة إلى قادة روس وصينيين، يمكن أن يكونوا مستهدفين بالاغتيال كجزء من “إستراتيجية أكبر للولايات المتحدة”، كما شدّد بومبيو على أن الردع الأمريكي الجديد من خلال سياسة الاغتيال “لا يقتصر على إيران”، فروسيا والصين معنيتان أيضاً. إضافة إلى أن الزعماء السياسيين والدينيين في العراق وسورية واليمن ولبنان وأماكن أخرى يتعرّضون فيها للاغتيال الأمريكي، وقد شهدت دول عدة في الشرق الأوسط مثل هذه الاغتيالات التي شملت قياديين من حزب الله، والحوثيين في اليمن وحماس في قطاع غزة.
وأوضح بومبيو أنه سيتمّ اتخاذ إجراءات معيّنة مع الأهداف قبل الاغتيال، تتضمن تجميد حساباتهم في المصارف الأجنبية والأصول المالية الأخرى.
من المؤكد أن جُلّ ما تمكن بومبيو من تحقيقه، أنه وجّه الأنظار إلى أن أي قتل أو اغتيالات مشبوهة في المستقبل لأي قائد عالمي أو صانع للسياسات يحمل بصمات أمريكية محتملة. كما أعاد خطاب بومبيو تركيز الانتباه على اغتيال ضباط المخابرات السعوديين لكاتب العمود في “واشنطن بوست” جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول العام 2018.
يصرّ بومبيو على أن السياسة الأمريكية الجديدة تتمثّل في ردع التهديدات الأجنبية للولايات المتحدة، بينما يرى محلّلون أنه ليس الأمن القومي للولايات المتحدة الذي يهتمّ بومبيو بحمايته، بل هو الرعاية الشخصية لترامب.