دراساتصحيفة البعث

الاستقلال الأوروبي بقيادة ألمانيا

ترجمة: علاء العطار
عن موقع “فالداي” 7/2/2020

حددت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الموضوعات الرئيسية المتعلقة بالسياسة الألمانية والأوروبية، كما أنها تتجهز لتسليم عصا القيادة، ليس لخلفائها في برلين فحسب، بل لإعطاء إشارات واضحة إلى قادة الاتحاد الأوروبي الجدد ولشركائها الخارجيين في واشنطن وبكين وموسكو.
وأكدت مجدداً موقفها الثابت والمبدئي الذي عبرت عنه بقولها في أيار عام 2017 بعد زيارة لدونالد ترامب الأولى لأوروبا: “علينا نحن الأوروبيين أن نتحكم بمصائرنا بأيدينا”، إذ طالب ترامب، خلال قمة الناتو آنذاك، أن يغطي حلفاؤه تكلفة الضمانات الأمريكية، وفي قمة مجموعة السبع، عندما رفض اتفاق باريس للمناخ، وعلى خلفية البريكسيت، الذي رحب به ترامب، مدت ميركل يدها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإعادة بعث ماكينة التكامل الأوروبي الألمانية-الفرنسية، التي توقفت بعد الأزمة الليبية، فتم تجهيز منصة سياسية حددت الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي لعام 2016، والتي وضعت نصب عينيها هدف تحقيق الاستقلال الاستراتيجي وتطوير أدوات “القوة الصلبة”، وأكدت الورقة البيضاء للبوندسوير على حاجة ألمانيا واستعدادها للعب دور قيادي.
إذن أكدت ميركل المسار المختار، إلى جانب الأهداف والنوايا المعلنة، لكن في ظل ظروف جديدة، وعلى مدى عامين أو ثلاثة، بات المشرعون أكثر يقيناً بشأن المتجهات التي لوحظت سابقاً، ومخاوف الأوروبيين من تقلب مزاج ترامب أفسحت المجال لإدانة أحادية الجانب الأمريكية، التي دمرت “الإيمان الأساسي” بالنظام “متعدد الأقطاب” لما بعد الحرب، ولاحظت ميركل أن فقدان أمريكا الاهتمام بأوروبا أمرٌ حتمي، وأصبح ذلك في ظل رئاسة ترامب تحدياً جيوسياسياً صعباً.
خطت لندن خط نهاية سباق البريكسيت، الأمر الذي أجبر الأوروبيين على النظر إلى مسائل التماسك من منظور جديد، لكن دون بريطانيا يصبح “الدفاع الأوروبي” مستحيلاً، لذا ينظر الاتحاد الأوروبي في خيارات لإدراج بريطانيا، وتعزيز معاهدة آخن لعام 2019 التي تعد دعامة التكامل الألماني الفرنسي، وبدأ الاتحاد الأوروبي سياسة التعاون المنظم الدائم ومشاريع عملية أخرى للمضي قدماً نحو سياسة “دفاع أوروبي”، وأوضح الاتحاد الأوروبي وألمانيا أنهما سيظهران أنيابهما رداً على سياسة “أمريكا أولاً”، ولم ينسحب الاتحاد الأوروبي من الاتفاق النووي مع إيران، واستحدث أداة خاصة لدعم التبادلات التجارية، متجاوزاً العقوبات الأمريكية المتجددة، واستطاعت ميركل تحقيق النصر داخل الاتحاد الأوروبي وفي مجابهتها ترامب بخصوص خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2.
وعشية الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني، لم يعد بإمكان ترامب إدراج “الانتصار على ألمانيا” ضمن قائمة إنجازاته، وبات الآن أقل اهتماماً برفع سقف المطالبات في لعبه مع الأوروبيين، لكن ألمانيا لن تبخل بالوقت ولا بالمال ريثما تتبين نتائج الانتخابات الأمريكية، بيد أن الاتحاد الأوروبي سيأخذ نتائجها بالاعتبار عند تحديد طبيعة سياسته الخارجية في المستقبل، إلى جانب الوضع السياسي في ألمانيا في عشية الانتخابات الفيدرالية عام 2021.
يقودنا كل ذلك إلى السؤال التالي: هل يمكن تحقيق الاستقلال الأوروبي الاستراتيجي أو “أوروبا ذات سيادة” أو “أوروبا الجيوسياسية”؟ إن استجابة المسؤولين الأوروبيين واضحة، حيث يقومون بصياغة الأهداف التي يعتزمون تحقيقها، لكن لكي يحقق الأوروبيون استقلالهم في ميدان الدفاع، على الاتحاد الأوروبي ألا يعتمد مبدئياً على شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة (وحلف الناتو) فحسب، بل أن تصبح أيضاً منافساً لأمريكا في ميدان الدفاع، ولا شك أن واشنطن ستبذل كل ما بوسعها لمنع تطور من هذا النوع، بالاعتماد على قيادتها الأورو-أطلسية، كما لا يزال الاتحاد الأوروبي نفسه مجزأ، وينطوي الاستقلال الأوروبي على نوع جديد من التضامن الداخلي، الذي يمثل مسألة أكثر إشكالية من البريكسيت، خاصة وسط ظروف الاتحاد الأطلسي المهتز.
وإن أراد الاتحاد الأوروبي تحقيق استقلال أكبر عن واشنطن، فإنه يحتاج إلى صياغة برنامج علاقات إيجابي مع قوى العالم واللاعبين الرئيسيين، ولم تنجح بعد محاولة بناء شراكة مستقلة بين بروكسل وبكين، بل إن الولايات المتحدة تمكنت من ربط الأوروبيين “بالتهديد الصيني” داخل الناتو، ولا تزال القضية الروسية تحدياً استراتيجياً للوحدة الداخلية للاتحاد الأوروبي، ورغبة الزعماء الأوروبيين في بدء حوار وتعاون متبادل مع روسيا يقابلها مقاومة وضاحة من واشنطن، التي تسعى إلى عرقلة العلاقات الروسية الأوروبية وتضع شروطاً بشأن العلاقات مع الصين.