ثقافةصحيفة البعث

جولة جديدة  للجنون في “بيت الأرمنية”

بعد مواقف تستحق دفع أثمانها غاليا كان على ناصر أن ينجو من عبور جديد إلى عالم السجون، وناصر هذا رجل لا يقوى على القبول بالواقع كما هو، الواقع يجب أن يكون صحيحا معافى، وإلا فهو يعتبر نفسه مكلفا بتقويم هذا الاعوجاج.

وبين زارة المدينة وزارة الجبل يدخل في جولة من الجنون تقوده إلى مخاطبة الحجر، فيجد فيه كائنا عارفا بما يجري من حوله، يستنطق البوابات ومداخل البيوت وجدرانها، ويصغي جيدا ثم يفاجئ من حوله بما تقوله هذه الجمادات، يكلفه ذلك كثيرا، ما استهوى الزميل الأديب فيصل أبو سعد بالمتابعة والتدقيق في حياة ناصر ونعيمة وريمون وشاهر ليكمل حكاية بيت الأرمنية .

هذا البيت كما في الصفحة 52 نائم في قلب المدينة متكئ على ناصية مهترئ متداع تهر دموعه وقرميداته فيكبت الشوك صوت ارتطامها يحدق العابرون به مطولا مأخوذين ببياضه بشكله الغريب بتناسل حاكورته حين تشي بعزه البائد.

هنا في هذا البيت أسرار وإشارات، رموز وطلاسم يتعهد ناصر بفكها، ومن أجل إظهار الحقيقة التي أريد لها أن تدفن مع ديكرانة.  وديكرانة هي أخت ناصر في هذا الجيل، وقد أعطت الكثير من العلامات الدالة على معرفتها ببيت الأرمنية، إلا أنهم كانوا يزجرونها ويرمونها بالإعاقة، وعدم القدرة على النطق ما يستوجب معالجتها دون جدوى.

وعوضا عن تنمية موهبتها في الرسم يقوم الأب بحرمانها من التعليم ويزوجها دون إرادتها، ما يبدل في حالها، وتنسى الكثير مما كانت تردده في الطفولة والذي بات ناصر يحتاجه للكشف عن الحقيقة، لكنه لم يعدم الحيلة، فقد أقنع شاهر بأن يترجم له بعض المفردات إلى الأرمنية باعتباره قد درس ونال شهادته من أرمينيا، فيتم له ذلك وينخرط معه في الدخول إلى بيت الأرمنية ليسمع ويرى ويتكلم مع الجدران ليعرف شيئا فيصرخ باسم ديكرانة بعد إحساسه المرير جراء هذا الانخراط في المجهول، فيأتيه الجواب نعم لقد فقدت امرأة اسمها ديكرانة، فتتهاوى قواه وتكاد ساقاه تتقصفان تحته، يتابعان الصوت ليجدا ريمون زوح ديكرانة الذي يعيش وحيدا ينتظر الحقيقة قبل أن يطلق الرب عبده بسراح.

هذه المرة بطل الرواية عاقل يفر من تبعات عقله، والسؤال الواجب طرحه هل نجا من عذاب السجن الصحراوي ليجد غلظة ما بعدها غلظة ممن حوله خارج السجن؟. أم أن هذه الحياة مقادير مقدرة لنا من العذاب لا نفلت منها؟ وأسئلة كثيرة تطرحها الرواية. وهنا في هذه العجالة لابد من التنويه بالجديد الجميل الذي حملته الرواية، وأقصد بذلك اللغة والتي هي على غير المألوف في لغة السرد، فقد جاءت مفعمة بالشاعرية وقريبة في روحها إلى النص الشعري، وهذا ليس انتقاصا من قدرتها على نقل الحدث بل يكاد يكون إطراء على ما حملته من تركيز ورمزية: وفي طريق نشوتها انقضت طيور الاستثناءات الجارحة عليها تسللت ثعالب الوقت إلى خرائطها  وتدفقت أموال المنافي داخل شرايينها فانتعشت وابتهجت وتغنجت لكنها في زحمة انشغالها تخلت راغبة أو مجبرة عن صومها عن رغبتها وحقها في الكلام.

رياض طبرة