دراساتصحيفة البعث

الولايات المتحدة الأمريكية بين رؤيتين

ريا خوري

منذ تشكّلت النواة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية والتي استمرت لسنوات طويلة حتى تمكنت من أن تتبوأ مكانةً مرموقةً في العالم ، لم يتوقف الجدل الساخن بين نخبتها السياسية حول حدود ومستوى دورها في العالم. لقد دأبت مراكز الأبحاث والدراسات وهي تصدر  الدراسات الإستراتيجية والملفات السرية والعلنية حول قوة ومصالح الولايات المتحدة في العالم ، ومدى خطورة أو نجاح تمددها في أرجاء الكرة الأرضية والسيطرة على البحار والمحيطات والممرات المائية، إضافةً إلى إثارة السؤال الهام  التالي وهو هل من مصلحة الولايات المتحدة  الأمريكية مواصلة التورط في أزمات وحروب خارجية، أم العودة إلى الانكماش والانكفاء على الذات والاستمتاع بما تملك وأن تعيش عزلتها الاختيارية؟.

هذه النقاشات تتراوح بين العقلانية الحادة وبين اللامبالاة والاستسهال وهي قضية تتجدَّد باستمرار مع تجدد الصراعات في العالم، وقد صارت مطروحة بقوة  بعد انتهاء الحرب الباردة، وإعلان الانتصار الأمريكي على الاتحاد السوفييتي السابق الذي عزز موقف أنصار ومؤيدي  انكفاء الولايات المتحدة  على ذاتها ، بدعوى أنه تم إيقاف مزيد من استنزاف الطاقات البشرية والموارد الطبيعية في نزاعات غير وجودية بعد انتهاء خطر الاتحاد السوفيتي السابق.

هذا التيار كسب أرضية جديدة بسبب الخسائر المادية والبشرية الهائلة في حرب العراق التي بدأت عام 2003، وكان الانسحاب من العراق أحد تجليات المد الانعزالي، ثم تمكَّن الاتجاه نفسه أن يحصل على زخم كبير غير مسبوق بانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الحزب الجمهوري  وهو الذي رفع شعار ( أمريكا أولاً ). وبناءً على ذلك أعرب غير مرّة عن رغبته الشديدة  في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي ( الناتو) وتقليص معظم الالتزامات الأمنية الخارجية، أما إذا بقيت مستمرةً فيتوجب دفع كامل التكاليف. وأكَّد غير مرَّة على تعهده بالانسحاب من كلّ الحروب الدائمة في منطقتنا العربية خاصة والشرق الأوسط عامة .

الواضح تماماً أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تحسم موقفها بشكل نهائي على الأقل في المدى القريب، إلا أنها حتى لو لم تنكفئ على ذاتها  لن تتمكن من المشاركة في الأزمات الخارجية بنفس تلك الحيوية التي كانت تتمتع بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في تشرين الأول عام  1945  والتي بدأت في  تشرين الأول من العام 1939، لهذا يحتاج العالم إلى مزيد من الفهم والوضوح والواقعية التي تحكم ذلك الجدل الدائر بقوة بين أوساط النخب والمفكرين والاستراتيجيين الأمريكيين بشأن مستقبل الدور الخارجي الذي تلعبه الولايات المتحدة حتى لا يصدم أحد بسياسات وقوانين وقرارات لن تكون مفاجئة بشكل واقعي، مع علمنا مسبقاً أنَّ هناك الكثير من الداعين إلى العودة إلى الذات والعزلة الأمريكية وهم أكثر من فريق . ونحن نرى أنَّ هناك فريقين كبيرين أحدهما يتكوَّن من منشقين عن التيار السياسي الليبرالي والذين أطلق عليهم الكاتب الأمريكي توماس رايت اسم “التقدميين” ، وهو يشرح بدقة إلى أي حد تمدَّدت دعوة العزلة  والانكفاء على الذات،  واتجاهها اليميني المتشدِّد  بطبيعة الحال إلى الحد الذي بات التقدميون  يملكون أرضيةً ودعماً قوياً داخل صفوف الليبراليين والديمقراطيين.

أما الفريق الثاني فيطلق عليه الكاتب توماس رايت  فريق “الواقعيين”، وهم الدعاة التقليديون للانكفاء على الذات بأشد درجاتها. واللافت للنظر أنَّ الجانبين يتفقان على أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ستكون أفضل وأقوى إذا اهتمت بشؤونها الداخلية بدلاً من الاهتمام بشؤون الآخرين . كما يتفقان أيضاً على أن الولايات المتحدة الأمريكية  استنزفت الكثير من مواردها وقوتها الاقتصادية  في الدفاع عن بلدان كان من المفروض أن تتولى شؤونها بنفسها. وأنَّ الولايات المتحدة ليست مضطرة لتحمُّل أعباء  الدول والحكومات والمنظمات  الدولية ومنظمات المجتمع الدولي وحتى الجماعات الإرهابية، لأنها ستكون في مأمنٍ تام بحكم موقعها الجيواستراتيجي وترسانتها النووية  والبيولوجية الضخمة. كما يطالب الفريقان باتخاذ خطوتين أساسيتين: أولاهما تقليص الالتزامات الأمنية تجاه دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، والانسحاب من المناطق الساخنة في الشرق الأوسط  وأفغانستان، سواء كان انسحاباً كاملاً أو انسحاباً جزئياً. أما عن الخطوة الثانية فيرى الفريقان أنَّه من الضروري التقليل من النشاط  الأمريكي الخارجي على كل الأصعدة، بحيث لا تتورط في حروب ونزاعات إلا إذا واجهت أخطاراً جسيمة وبشرط موافقة الكونغرس الأمريكي بعد دراسة مستفيضة يقدمها البنتاغون  يؤكد فيها نسبة نجاح مهمة الجيش والاستخبارات، مع الاعتماد الكبير على الدبلوماسية والأدوات التجارية والاقتصادية لمواجهة الأزمات الخارجية .

لم يقف رأي الفريقين عند هذا الحد بل تعدّاه للبحث حول قضية المواجهة مع الصين وهذا أحدث شرخاً واضحاً بين الفريقين، وبين فريق الواقعيين أنفسهم، حيث يتمسَّك أحد الفريقين بالإبقاء على قوة عسكرية أمريكية في آسيا لاحتواء التهديد الصيني الذي يطلق عليه (التنين الصيني). بينما يطالب الفريق الآخر بأن تتحمَّل دول آسيا والدول الأخرى هذا العبء، غير متناسين ما قاله فريق ثالث بالاعتراف بما يُطلق عليه الفضاء الإقليمي لنفوذ جمهورية الصين الشعبية، وجمهورية روسيا الاتحادية. وبذلك على الولايات المتحدة الأمريكية ألا تنازعهما في المجال الجغرافي  الطبيعي، بما في ذلك تخليها العملي عن تايوان. في حين يرى فريق الواقعيين أنَّ الانكفاء الأمريكي في هذه الحالة سيؤدي إلى اندلاع مضاربات ومنافسات إقليمية كبيرة  لسد الفراغ الذي ستخلفه بلادهم، وأنَّه لا بأس من ذلك طالما هناك تخطيط علمي وعملي ممنهج. لكن الفريق الواقعي يتوقع العكس تماماً، ويرى أنه  يجب على العالم أن ينعم بالأمن والأمان والسلام  والاستقرار والتعاون، لأنَّ وجود الولايات المتحدة الأمريكية يثير التوتر والاضطرابات. ومهما كانت حدة الخلافات والاختلافات  بين الفريقين  فمن المؤكد أن تُسمَع أصواتهم بقوة في دوائر الدولة ومراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة والتي لم يعد يستطيع أحد تجاهلها، ولن تجد ملاذاً من الأخذ ولو جزئياً بمطالبهم ووجهات نظرهم. من هنا نرى أنَّ العالم يجب عليه أن يستعد وفي مقدمته منطقتنا العربية بخاصة والشرق الأوسط بعامة لدور أمريكي جديد مختلف نوعاً ما وأقلُّ حجماً  .