ثقافةصحيفة البعث

“الوباء”في الرواية بين التوظيف الرمزي والواقعي

تعتبر الرواية كفن أدبي سمته الأساسية محاكاة الواقع والامتاح من معينه، أكثر الفنون الأدبية مواكبة للمستجدات الحياتية وتأثيراتها المختلفة،فقد درجت معظم الروايات على توثيق الواقع بأزماته السياسية والاجتماعية والديموغرافية والصحية،وإعادة صياغتها لاستنباط الدروس والعبر والمواقف منها، بفتح المجال أمام الفنون الأخرى لاسيما الدراما التلفزيونية والسينمائية لاقتفاء أثر نتاجها خطوة فخطوة.

وقد شهد التاريخ الإنساني العديد من الحروب والكوارث الطبيعية المدمرة والأوبئة القاتلة التي أتت على ملايين البشر وأحدثت تغيرات جوهرية في طبيعة حياتنا، هذه الأحداث واكبتها الرواية ووظفتها وفق أساليب مختلفة منها الرمزي ومنها المباشر، ففي رواية الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا “حضر هذا الوباء بتجلياته الرمزية لخدمة الموضوع الأساسي وهو الحب الحقيقي الذي جمع ذلك الشاب الذي بقي خمسين عاما يحمل الأمل بالحصول على محبوبته التي هجرته وتزوجت طبيباً من عائلة ارستقراطية، وعندما توفي الزوج، سارع الشاب الذي أصبح كهلا، إلى محبوبته ليعرض عليها رحلة على متن قارب في نهر مجدولينا، ولكي يستفرد بمعشوقته ويطيل أمد الرحلة أشاع بوجود وباء الكوليرا على متن القارب فقام القبطان برفع الراية الصفراء رمز ذلك الوباء المخيف الذي تفشى في دول أمريكا الجنوبية في بدايات القرن الماضي، وهكذا يضمن أن أحدا لن يقترب من القارب ولن يسمح له بالرسو في أي مكان، فقد وظف ماركيز وباء خطيرا لخدمة الحب الذي يمكننا إشاعته في مختلف الظروف.

 

في حين ركز الفرنسي البير كامو في روايته “الطاعون” 1947 على خطورة هذا الوباء وتأثيراته السلبية على المجتمع والعلاقات الإنسانية من خلال حكاية يفترض فيها تفشي وباء الطاعون في مدينة وهران الجزائرية مسقط رأس الكاتب الجزائري المولد، تلك المدينة الوادعة التي تحولت بسبب الوباء إلى سجن بعد إغلاقها لمنع انتشار المرض، وليتحول سكانها إلى هياكل بشرية تنتظر حتفها بأسى.

يصور كامو الحالة بواقعية مشوقة يبين فيها كيف تعاملت الشرائح الاجتماعية المختلفة مع الجائحة وفق رؤى تفرضها قناعة كل فئة، فالعاملون بالمجال الصحي بدأوا بالبحث عن الأمصال والعقاقير الطبية لإيقاف المرض، في حين واجهه رجال الدين بالمواعظ والدعاء والأفكار المتناقضة، بين من يراه عقابا إلهيا، ومن يراه امتحانا لصبر الناس على البلوى، وكأن كامو يصف حال اليوم مع الفيروس المستجد “كورونا”. إلا أن الأمل عند كامو لابد وأن ينبعث من بين رفات الموتى باكتشاف العلاج ولقاء الأحبة.

في روايته الصادرة عام ١٩٩٥بعنوان “العمى” يصور البرتغالي جوزيه ساراماغو الخوف والهلع والانقياد الغريزي، عند سماع خبر تفشي وباء يطلق عليه “الوباء الأبيض” الذي يسبب العمى، فقد دفع الخوف من الحجر الصحي ومن عدم اكتشاف الدواء اللازم لإيقاف الوباء، إلى التخبط في فوضى عارمة، غاب فيها حس المسؤولية والوعي اللازم لمواجهة الأزمة.

بدأ الوباء بالانتشار عند ساراماغو مع توقف سيارة عند إشارة المرور بعد أن فقد سائقها البصر فجأة، فانتقلت عدوى فقدان البصر إلى من ساعده في الوصول إلى المنزل والى زوجته، والطبيب الذي جاء للكشف على حالته، وهكذا يخرج الوباء عن السيطرة، وتفرض السلطات منع التجول وعزل المصابين ومن تواصل معهم. ويزيد الوضع سوءا انتشار عصابات السرقة واشتعال الصراع للحصول على القوت اليومي،وبروز التفاوت الطبقي الذي عرته وفضحته  الظروف المستجدة.. لكن ساراماغو يغمز في هذه الرواية من ناحية العمى الفكري وغياب المبادئ الأخلاقية، وانعدام البصيرة التي يمكن الاستعاضة بها عن العمى البصري.

“الموت في البندقية” رواية يستحضر فيها الكاتب الألماني توماس مان ١٩٢٢قصة انتشار وباء الكوليرا في مدينة البندقية الايطالية التي نقلتها المنتجات الآسيوية، فتحاول السلطات المحلية إخفاء الأمر خشية من الخراب الذي سببه خوف الناس وهلعهم، قبل أي شيء آخر، وسرعان ماينتشر الخبر وتعم الفوضى ويقع المحظور، لكن الروائي يحاول خلق حالات إنسانية يمكن البناء عليها من خلال علاقة العجوز الإنكليزي أشياخ بالصبي الآسيوي.

كما يصف الكاتب الانكليزي المعروف ستيفن كينغ في روايته “الموقف” الانهيار الشامل للمجتمع على اثر انتشار سلالة من الأنفلونزا معدلة للحرب البيولوجية، تقضي على ٩٩٪ من سكان العالم. رواية تصنف ضمن نصوص الخيال والرعب، صادرة عام ١٩٧٨ ويتناول فيها حكاية أنفلونزا تدعى”المشروع الأزرق” تنطلق من قاعدة أمريكية سرية تحت الأرض حملها جندي فار من القاعدة مع زوجته وابنته، بعد حدوث عطل في نظام الاحتجاز والاحتواء، تسبب بنشر الفيروس المقاوم للمضادات الحيوية، ويبين الكاتب فشل احتواء الموقف بسبب الفوضى والانهيار السريع في المجتمع مما سبب انقراض البشرية، وهنا يلتقي معظم كتاب هكذا نصوص عند خطورة الفوضى وأثرها السلبي في مواجهة الأزمات الطارئة.

وعلى صعيد الرواية العربية نقرأ نصوصا عديدة تناولت الأوبئة بواقعيتها أو برمزيتها الاجتماعية، فالمصري صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ يتوقف في رواية “الحرافيش” عند البطل الشعبي نصير الضعفاء والفقراء ومن خلاله يتطرق إلى الوباء الذي فتك بسكان الحارات ولم يبق منهم سوى عاشور وزوجته وطفلته شمس الدين، ومنذ ذلك الوقت يلقب بالناجي، لأنه كان الناجي الوحيد من الجائحة، هذا اللقب يورثه لأبنائه وأحفاده، رواية أجيال متعددة ترتقي لسوية الملاحم الكبرى.

أما السوري هاني الراهب فيأخذ من الوباء رمزيته الاجتماعية في الرواية التي تحمل ذات الاسم، رغم تطرقه إلى مرض السل الذي كان يفتك بالعباد، وراحت مريم ضحية له، لكن الوباء عند الراهب هو التخلف والأمية والفساد الذي ساد المجتمع السوري في الفترة التي تمتد لأكثر من نصف قرن من بدايات القرن الماضي.

إلى جانب هذه النصوص نجد أن روايات عديدة صدرت في السنوات العشرين الماضية تطرقت إلى الوباء واقعا واستشرافا،منها رواية المصري محمد عبد الكريم “الوباء” التي تحكي قصة مجموعة أشخاص يصابون بوباء يصيب الجهاز التنفسي وينتشر بسرعة يقضي على حياتهم مسببا الاضطراب في المجتمع، تحاول شخصية الرواية المحورية إيقاف الوباء وإنقاذ أهله وأقاربه.

وكذلك رواية مواطنه الراحل أحمد خالد توفيق التي تحمل العنوان ذاته وتجري أحداثها في أفريقيا من خلال مغامرات الطبيب علاء في علاج المصابين بفيروسات الحمى النزفية التي تقتل الإنسان خلال ساعات.

وهناك رواية للسوداني أمير تاج السر بعنوان “إيبولا ٧٦”٢٠١٢ رواية واقعية يرصد فيها ظروف مراحل انتشار فيروس ايبولا في إفريقيا والكونغو تحديدا.

هكذا نرى أن الرواية كانت حاضرة في تتبع أحداث الواقع المفصلية وإشاعة حالة من الوعي والتفاؤل في مواجهة الأوبئة واستنباط العبر من خلال أساليب مواجهتها يمكن الإفادة منها سواء في مواجهة خطر كورونا العالمي المستجد والتصرف بايجابية حيال كل الأزمات التي تفرض نفسها، أو استغلال ظروف العزلة في القراءة واكتساب المعرفة والوعي، وإشاعة الحب في الأجواء المحيطة.

 

آصف إبراهيم