دراساتصحيفة البعث

ترامب وأزمة الأوليغارشية الأمريكية!!

ترجمة وإعداد: عناية ناصر

سيتذكّر الكثير من المراقبين نهاية قصة عزل ترامب، فقد رفض مجلس الشيوخ سماع الشهود، ولم يستطع مؤيدو العزل الحصول على 50 صوتا.. فقط سيناتور واحد، ميت رومني، كسر القواعد في المؤسّسة الجمهورية بتصويته على عزل ترامب، ولذلك اقترح بعض الخبراء، مثل إيان بريمر، اعتبار رومني زعيما للحزب الجمهوري، لأنه دعا مجلس الشيوخ إلى ممارسة الدور القضائي المنوط به.

سيتذكّر الجميع رمزية رفض ترامب مصافحة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، إضافة إلى ردّ فعل الأخيرة التي مزقت علنا نص رسالة الرئيس السنوية إلى الكونغرس قبل يوم من تصويت مجلس الشيوخ على تبرئته. لقد خسر الجميع ما عدا ترامب، والديمقراطيون لم يتعلموا الدرس، فمنذ أيام هيلاري كلينتون، التي ألقت باللوم على فلاديمير بوتين في هزيمتها عام 2016، لم يتعلم الديمقراطيون كيف يخسرون بكرامة.

هذه التغييرات في الولايات المتحدة هي المدخل لفهم ما يحدث، إذ كشف ترامب التناقضات المتراكمة خلال نصف القرن الماضي داخل النظام. لقد كتب الكثيرون عن الدور المتناقص للمشاركة العامة والمبادرات في أمريكا ما بعد الحرب. ويربط روبرت بوتنام، الباحث الذي أطلق فكرة رأس المال الاجتماعي، بين ما يحدث من تحولات في تكنولوجيا الإعلام، وتحول أمريكا لبلد للشركات تحكمه نخبة عسكرية صناعية وإعلامية تفرض أولوياتها على المجتمع. فبدلا من أن تكون الخيار العقلاني للمواطنين الواعين – أحد أفضل تعريفات الديمقراطية لجوزيف شومبيتر – أصبحت أمريكا حكومة قلّة تحكم المواطنين غير الواعين.

يلقي بعض الخبراء باللوم على روسيا بتهمة الأوليغارشية، ولكن في النظام الأمريكي، فإن دمج الأوليغارشية مع هياكل السلطة السياسية له جذور أعمق وأقدم، بشكل يبعد مجموعات القلّة التي تفصلها المصالح التنافسية عن المجتمع. وقد أصبحت الانتخابات وسيلة لتعزيز مصالح الأوليغارشية، وأصبح الاقتصاد الأمريكي عالميا مجمعا عسكريا صناعيا يعمل على نقل إنتاج الخدمات والسلع الاستهلاكية خارج البلاد. وفي الوقت نفسه، ومن خلال فهم المغزى الإيديولوجي للموضوع، اضطلعت النخب بأفكار الديمقراطية وأكّدت للأمريكيين أن الله قد اختارها وبارك مهمّتها العالمية؛ كما ساعدت الحرب الباردة، والمسيرة المنتصرة للولايات المتحدة بعد نهايتها، على إخفاء التناقضات بين النخبة والمجتمع.

الآن، ظهرت هذه التناقضات على السطح وبصورة جليّة للغاية، حيث تتمتّع شخصية دونالد ترامب، وهو أيضا ممثل لمجموعة القلة، بأهمية رمزية كبيرة. لقد كان من الصعب في التاريخ الرئاسي الأمريكي تسمية شخص لديه مثل هذا المزيج القوي من الأنانية والافتقار إلى الاحترافية والرغبة في تشويه أيّ من معارضيه. ويبدو أن نبوءات المفكرين الروس حول الانتصار القادم في روسيا وأوروبا كانت ذات صلة بأمريكا.

لقد أصبح ظهور التناقضات الداخلية ممكنا أيضا بسبب التراجع الملحوظ في دور أمريكا في العالم، حيث ساهمت سياستها الخارجية المغامرة (يوغوسلافيا والعراق وليبيا وغيرها)، وكذلك نهوض الصين والقوى غير الغربية الأخرى، في تفاقم أزمة نظام القلة. لكن اليوم، لا تتمتّع فكرة الانتشار العالمي للديمقراطية التي تهيمن على الطبقة السياسية بدعم واسع النطاق في المجتمع. هذا هو السبب جزئيا في أن كلا الحزبين السياسيين في أزمة، فقيادة الحزبين ليست مستعدة للتغيير. فهل من المستغرب، بناء على هذه الخلفية، أن يرفض الكثيرون رؤية ترامب باعتباره أسوأ خيار، كما يتضح من الزيادة الملحوظة في شعبيته؟

لا يمكن للحملة الانتخابية الحالية أن تحلّ الأزمة، بل هي ستزيد من حدة أزمة الأوليغارشية وعزلة المجتمع، ويسلّط فشل محاولة عزل ترامب الضوء على مكاسبه في سباق الانتخابات. إنه الرئيس الحالي، حيث أظهر للناخبين بعض إنجازات السياسة الاقتصادية والخارجية، بما في ذلك صفقة مهمة مع الصين. إضافة إلى ذلك، فهو رئيس حاول الديمقراطيون، مرتين، ومن دون نجاح، إزاحته من منصبه. وسوف يذكّر ترامب الديمقراطيين مرارا أن حكم القانون كان في جانبه، فيما الانتقام والتعطش إلى السلطة في جانبهم.

في الوقت نفسه، لم يقدم الديمقراطيون مرشحا قويا واحدا، وليس من الواضح من سيحصل على الترشيح بالضبط، لكن كل واحد من المتنافسين لديه عيوب خطيرة. فـ بايدن شديد الثقة بالنفس ولكن لديه هشاشة فيما يتعلق بدوره ودور ابنه في أوكرانيا. وقد ينظر إلى ساندرز، ووارن، على أنهما متطرفان للغاية. ويرى الكثيرون أن الشاب بيتي بوتيج الموهوب سياسي مثالي غير ذي خبرة، ويمكن القول إنه باراك أوباما الأبيض.

لم يبق متسع من الوقت لتوحد الديمقراطيين إيديولوجيا، لذلك من المحتمل أن تتمّ المراهنة على ترامب وإظهار المفاجآت من سيرته الذاتية. وهنا يجب على روسيا أن تحافظ على بعدها، والاقتصار على المراقبة واستخلاص النتائج. وأيا كان ما يقوله الإعلام والسياسيون الغربيون، فإن التدخل الروسي في السياسة الأمريكية ضئيل وغير فعّال، بغض النظر عمن سيكسب الانتخابات، ولا يمكن للمرء أن يتوقع أي تخفيض للعقوبات ولا محاولات جادة لبناء علاقات ثنائية. لقد أظهر كلّ من ترامب وخصومه بالفعل أنهم يرون روسيا كعدو، وهم مستعدون لإجراء حوار معها فقط من موقع القوة، لذلك ينبغي على روسيا أن تفترض أن فترة التوتر ستكون طويلة وألا تستعد للتعاون الكامل، بل عليها أن تسعى لمنع تصاعد النزاع وتعزيز قدراتها. ولا ينبغي أن تكون أولوية السياسة الخارجية الرئيسية هي أمريكا، بل بناء العلاقات متعدّدة الأطراف في آسيا وأوروبا. ومن المهم أيضا استخلاص النتائج، ليس فقط فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المستقبلية للولايات المتحدة، ولكن أيضا بالمشكلات الداخلية التي أصابت تلك البلاد. وفي ضوء المثال الأمريكي، من المهم فهم مخاطر حكم الأوليغارشية وإعادة تقييمها.