ثقافةصحيفة البعث

من ملتقيات الزمن الجميل …

كانَ وما زالَ وسيبقى للملتقياتِ والصالوناتِ والمنتدياتِ الأدبيةِ الدورُ الهامُ والبارزُ في الارتقاء بالحالةِ المجتمعيةِ تُجاه الوعي والنضوجِ والانفتاحِ الثقافي المعرفي كونَها تتيحُ اللقاءاتِ والحواراتِ الفاعلةِ والجادةِ بين أهل الاختصاصِ من فكرٍ وفنٍ وسياسة وفقه من جهة وبين الحضورِ من طلبةِ متعةٍ أو دهشةٍ أو لَذّةِ المعرفةِ من جهةٍ أخرى..

تاريخياً أخذتْ الصالوناتُ الأدبيةُ غيرَ مظهرٍ وشكلٍ فكانَ سوقُ عكاظ وما يدورُ به من سجالاتٍ شعريةٍ لا تنتهي، وكما نُقل لنا بأنّ أجملَ القصائدِ كانت تعلّقُ على جدار الكعبة بعد أن تُخطَّ بماء الذهب، وأيضا ما يمكنُ أن يكونَ أخذ طابعَ الصالوناتِ الأدبيةِ أو المنتدياتِ، ذاكَ الحراكُ الثقافيُّ الموشّى بلبوسٍ  مقصّب بالحيوية وبالحرية وبالإبداع الحقيقي ذاك الذي كان يدورُ في قصر الحاكم (هارون الرشيد – سيف الدولة الحمداني) أنموذجا من مناظراتٍ فكريةٍ حادةٍ بين غيرِ اتجاهٍ عقليٍ معرفي كالفرق الكلامية مثلاً والتي حوت وضمتِ العديدَ من المذاهبِ والاتجاهاتِ منها ما هو قد تعصّبَ للنقلِ وآخرُ للعقلِ  فكانوا يختلفون بالرأي دون إلغاءِ بعضِهم بعضاً أو تكفيرِ هذا لذاك أو الدعوةِ للاعتقالِ والنفي فكان ثَمةَ هامشٌ جميلٌ للعقلِ وحيويةِ العقلِ، ثمَّ أخذت ما يُسمى الصالوناتِ الأدبيةِ – التي لم تَكن حِكراً على الرجالِ وحسب – شكلَها الحقيقيَ  الفعلي في دار ولادةَ بِنتِ المستكفي (994_ 1091 )م، في قرطبة.

بدأت هذه الظاهرة الحضارية بالتنامي حيناً وبالخمولِ أحياناً بحسب توافرِ رموزِ فكرٍ وأدبٍ أو واقعِ الحالِ السياسي والاقتصادي، ودونَ الخوضِ في تلك الأسماءِ ومراحلِ أو حالِ الملتقياتِ سنتجاوزُ هذا وذاك ونصلُ بالحديث إلى مَطْلَع القرنِ العشرينَ الذي شهد تنامي وتطور هذه الصالوناتِ في كل من دمشقَ وحلبَ وبغدادَ والقاهرةِ وغيرِها من المدنِ العربيةِ، فكان أولَ ما كانَ صالونُ الأديبةِ مريانا مرّاش في حلب وصالونُ الأديبةِ أيضاً ماري عجمي في دمشقَ، ومي زيادة في مصر وأيضا صالونُ ثريا الحافظ في حي المزرعة في دمشق، وصولاً إلى صالونِ الأديبةِ المعروفةِ كوليت خوري التي كانت تتعاونُ مع بعضِ رموزِ الأدبِ والفكرِ لتنظيم لقاءاتٍ غيرِ دوريةٍ  في منزلها – حي القصاع – ومناقشةِ العديدِ من القضايا الفكريةِ والأدبية.

وكثرتْ الملتقياتُ والصالوناتُ والمنتدياتُ الأدبيةُ في النصف الثاني من القَرن العشرين وازدادت انتشاراً في العديد من المدن والمحافظات السورية في حلب على سبيل المثال كان ثمة حراكٌ ثقافي مهيبٌ والممتد على مدار أيام الأسبوع فكان نادي التمثيل العربي للآداب والفنون والذي رأَس إدارتَه ولسنوات طويلة العلامةُ الجليلُ محمود فاخوري وأيضا نادي شباب العروبة الذي أغنى المشهدَ الثقافيَ الحلبيَ وكذلك النادي العربي الفلسطيني الذي شغل وما زال إدارتَه الثقافيةَ الشاعرُ الراقي المعروف الصديق محمود علي السعيد وأيضا جمعيةُ العاديات وباعُها الطويلُ في خلق حراك ثقافي اجتماعي راقٍ بإدارة الباحث القدير محمد قجة ، هذه الجمعيةُ التي أصبحَ لها فروعٌ في مختلفِ مدن ومحافظات سوريتِنا النور، وجمعيةُ الشهباءِ أيضا التي عرفت بنشاطها الثقافي الأسبوعي، إضافة إلى وجود صالونات أخرى أحدثت مؤخرا فنالت ما نالته سابقاتها من ثقة ومحبة ومتابعة جل أدباء حلب على سبيل المثال (صالون أديل برشيني – مقهى حلب الثقافي بادراه وأشراف الشاعر محمد بشير دحدوح – صالون الأديبة رياض نداف..الخ).

جمعياتٌ وصالوناتٌ وملتقياتٌ ومنتدياتٌ أدبيةٌ وفكريةٌ واجتماعيةٌ أهلية عَمِلت جنباً إلى جنب مع المؤسساتِ الثقافيةِ الرسمية للنهوض بواقع حالِ المجتمع وبضخ جرعاتٍ من الوعي المعرفيِّ لخلقِ حالةٍ من النهوض والانفتاح  ضمّت واستضافت العديدَ من رموز الأدب والفكر والفن والسياسة وفتحت ملياً الآفاقَ للحوارات الحرةِ والهامةِ في جميعِ مناحي الثقافةِ.. كلُ هذا ساهم في رسم ملامحِ صورةٍ حضاريةٍ لمجتمعٍ حضاري.

عباس حيروقة