ثقافةصحيفة البعث

سيدة الإلهام والندى.. صالح هواري يقرأ الشام “في فنجان الغيم”!

في نحو ثمانٍ وثمانين قصيدة مختلفة في موضوعاتها متباينة في مستواها الفني وشكلها وإيقاعاتها، ينقلنا الشاعر الفلسطيني صالح هواري في ديوانه “قراءة في فنجان الغيم”، الصادر مؤخراً عن دار العتيق، إلى عوالم شتى يسعى جاهداً كي نشاركه اكتشاف مضمرها وتحسّس جمالياتها، ذلك أننا حقاً أمام منجز إبداعي جدير بأن نغوص في ما ينطوي عليه من فلسفة ذاتية ورؤى عميقة في فهم وتفسير طبيعة الكتابة عامة والشعر خاصة، ولاسيما حين يصير وردةَ الله، أو كما يقول الشاعر ص 54: إنه الشعر وردةُ الله تُهدى.. يفرحُ الله حينما الشعر يولد!.

وما بين إبحارٍ في عوالم الطفولة وذكرياتها المشتهاة، كما في قصيدة “هل أنسى” ص 72، إذ يستعيد الشاعر صورة البيت في بلدته سمخ الغافية على شاطئ بحيرة طبرية، ورائحة خبز الطابون والزعتر والزيت، وحبة البرتقال التي ستصير قنديلاً صغيراً، ورفاق المدرسة والولد الذي يحلم بأن يكون غيمة تهمي على الحدائق والحواكير في الفردوس الذي بات مفقوداً، وما آلت إليه البلاد اليوم بفعل الحروب وقد أكلت نيرانها تلك الذكريات الجميلة، سيختزلُ صالح هواري التراجيديا الفلسطينية الممتدة فصولها حتى اليوم، مستذكراً أشرقت القطناني وعلي الدوابشة وأحمد دحبور وأم أحمد التي كانت رمزاً للمرأة الفلسطينية في أغلب قصائده، والمخيم الذي تفرّق أبناؤه في أصقاع الأرض وأرجائها، يقول في قصيدة (كان مخيماً)، ص 130:

هُدِمَ المخيمُ كيف لا نبكي عليه

بأي آلاءِ الدماءِ تكذّبون؟

نصفُ الشبابِ مهجّرون

والنصفُ ينتظرُ الرحيلَ

على زوارقَ من جنونْ

كان المخيمُ كان!!

كان مخيماً.. ونريدهُ ألا يكونْ

إن عادَ عدنا للرحيل.. من الرحيل إلى الرحيل

ولن تَرانا..

لن نراها عيلبون

ردّوا الستارَ على المخيمِ

لا نريد مخيماتٍ يشتفي فينا الغزاة ويشمتون

إلا على وقعِ البنادقِ

لن نغني عائدون..

يمثّل ديوان “قراءة في فنجان الغيم” باعتقادنا ذروةً من ذرى العطاء الإبداعي والحداثة الشعرية، ومرحلةً ربط الشاعر فيها ماضيه بحاضره، حيث سنكتشف معه الفارق بين الزمنين، الماضي المثخن بمرارة النكبة واللجوء، والحاضر الذي يبدو أشد قسوة على قلب الشاعر وروحه، وما بينهما من رغبة في مواصلة الحياة والسعي لبناء فلسفة ذاتية، كما أسلفنا، تعينه على مقاومة هذه القسوة، ولعلّ قوام هذه الفلسفة سيتبدّى في غير قول للشاعر العاشق الشغوف مرة في وصف الأنثى وجمالها، وتارة التحسّر على عمر مضى وكان سراباً ﻻ أكثر، وأخرى نراه بلبوس الزاهد الذي لم تغره الدنيا ولم تشدّه إلى مفاتنها، أو اللاجئ المفجوع بوطن تعمّد بدماء الشهداء وعذاباتهم، إذ يقول مثلاً في قصيدة (أخدع نفسي)، ص 33:

سبعون مرت.. وقد زادت تسعاً

مرتْ مثل الملحِ.. وذابا

طاردتُ حمائمَ فتنتها

فكأني طاردتُ سرابا

أنظر حيناً في مرآتي

فأحارُ.. وأبقى مرتابا

أأنا هذا.. أم ذاك أنا!!

لا أعرف للأمر جوابا..

وأسرّ لكم طول حياتي

لم أحسب للعمر حسابا

أشعر أن فؤادي قمرٌ

قد شابَ الليلُ وما شابا

كم قلت له تبْ عن ليلى

فعصاني القلبُ وما تابا

هذا السرابُ الذي تكرّر في غير قصيدة سيغدو ثيمة تشي بحجم القلق الذي يعيشه الشاعر، ومرايا تشفّ عما يعتمل في روحه التي زهدت بكل شيء، كقوله في قصيدة (خذوا كل شيء)، ص 38:

تعبتُ من الركضِ

خلفَ مرايا السراب

أنا ذاهبٌ يا أحبةَ قلبي

إلى النوم فوق

سرير الندى

خذوا كل شيء معي

واتركوا لي جناحي

يحطّ على ظهر عصفورةٍ

في المدى..

غير أن هذا الزهد لن يدفعه إلى الصمت والانطواء على الذات، بل سيشرع حنجرته ليصير الحزنُ غناءً، حيث يقول في قصيدة (أتمنى ألا أتمنى)، ص 79: الحزنُ المبدعُ يسكنني.. لا أحزن إلا لأغني!

على أن ما يطغى أيضاً في قصائد الديوان هو عشق الشاعر للشام وشغفه بأمكنتها، وقد لمسنا هذا العشق والشغف في قصائد وكتب سابقة كما في ديوانه “مرايا الياسمين” الصادر في دمشق عام 1998، لكن هذه المرة لن يماشي الياسمين ويخاصره، بل سيكفكف دموعه التي صارت ندى، يقول في قصيدة (سيدة الندى)، ص 28:

الشامُ سيدتي وملهمتي

إلا إليها لن أمدّ يدا

يا حبها الأزليَ يا قمراً

زدني ضياعاً كي أزيد هدى

ولداً لعبتُ مع النجوم هنا

يا ليتَ أني لم أزل ولدا

الشامُ سيدةُ الندى وعلى

سجادِ عزتها الخلودُ شدا

الياسمين بكى على يدها

سبحان من سوّى الدموع ندى..

إن هذا القول بما ينطوي عليه من جماليات الوصف، واستدعاء اللحظة الشعرية، وبلاغة استحضار المكان وأنسنته، سيرخي بظلال مدلولاته العميقة على باقي القصائد المكتوبة في عشق الشام ويفتح آفاق التأويل على اتساعها، وفي الوقت نفسه يؤكد أن الشام لم تُخلق إلا لتبقى وتبقى، يقول في قصيدة (دمشق)، ص 90:

قلوبُ بنيها كما اليا… سمين نقاءً وأنقى

إذا مسّها الحب ضاءت… وزادت مع البرقِ برقا

فكيف ستخرجُ منا… وفي روحنا الشام غرقى

وكيف سنرحلُ عنها… وقد زادنا العشقُ عشقا

سرير العيون لها… يموتُ الرحيلُ وتبقى

وبمقاربة معاني القصيدتين ومدلولاتهما، وربما الديوان برمته، سندركُ كم كان الشاعر ماضياً وحاضراً مسكوناً بالشام يهجسُ بعشقها، ويؤمن أبداً ببقائها، بل إن ما تعرّضت له خلال السنوات الأخيرة جعله أكثر تمسكاً بها وتشبثاً بالدفاع عنها، وكأنه يرنو في كلّ ما كتب إلى أن تكون في صمودها وشجاعة قلوب بنيها نداً خالداً لطبرية وسمخ وسواهما من المدن والبلدات الفلسطينية المزروعة شتلات أمل في ذاكرته وروحه ووجدانه.

عمر محمد جمعة