دراسات

قمـــــع جنـــــوح الأقويـــــاء …

ترجمة وإعداد :إبراهيم أحمد

تزيد الإيديولوجيا الأمنية في القمع الموّجه للطبقات الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى، لايهتم الأمن والقضاء بإجرام الأقوياء سواء كانوا من ممثلي الدولة أو المصالح الخاصة. بعيداً عن جعل المجتمع أكثر أماناً، يزيد هذا الاختلال في مستوى عدم عدالته وعنفه تاركاً المجال لزيادة تسامح عام تجاه الممارسات اللا شرعية.

منذ أكثر من عشرين عاماً، فرضت فكرة نفسها على النقاش العامّ وهي الفكرةُ التي تقول إنّ أمْننا –في معناه الضيّق جدّاً- أي التّوقّي من الاعتداء على حُرْمتنا الجسديّة- يمكن ضمانه مقابل هيمنة متزايدة تفرضها السّلطة القمعيّة على وجودنا. بعبارة أخرى، مقاومة الجريمة تتطلب دائماً التأطير القانوني والرقابة القضائيّة للسُّلطة الجزائيّة وبالأخص جهاز الشرطة. في الوقت الذي تسيطر فيه مسألة الإرهاب وتمنع كل حوار هادئ، من الصّعب التشكيك في ما يظهر تحت ملامح الفطرة السّليمة الثّابتة. رغم ذلك، هناك واقع آخر آخذ في التّشكّل. من جهة، نجد أنّ الأمان الذي وعد به صُنّاع هذا الهروب إلى الأمام والمبني على القمْع يظل مجرّد سراب. للاقتناع بذلك، يكفي تذكّر أنّ المجزرة المُروّعة التي حدثتْ في نيس يوم 14 تمّوز 2016 ارتُكبتْ رغم إعلان حالة الطوارئ منذ ثمانية أشهر، وهي حالة قُصوى من حالات تفويض مطلق السّلطات لعناصر الشرطة الموكول إليها حماية المواطنين. من جهة أخرى، ينتج منهج التأمين تأثيراتٍ فعليّة على السكّان الأكثر تعرّضا لها بصفة مباشرة، وهم الطبقات الشعبيّة. زيادة على كوْن هذه الطبقات هي أكثرتعرُّضا للأعمال الإجرامية – فهي على سبيل المثال معرّضة لسرقة السّيارات بنسبة الضِّعف، ومع ذلك تجد نفسها خاضعة لانعدام أمان مُتزايد أمام الشرطة والسّلطة العدليّة. هي تتعرّض مثلاً إلى نسبة أكبر من عمليات المراقبة البوليسية المبالغ فيها والتمييزية الشبّان الذين يرتدون زيّاً يُعرف بكونه خاصّاً بأبناء الأحياء الشعبيّة يكونون عرضةً للتفتيش والتثبّت من الهويّة ستّ عشرة مرّة أكثر من الشبّان ذوي الهيْئات الأخرى.

تتعرّض الطبقات الشعبية كذلك إلى العقوبات أكثر من سواها، هي ممثّلة أكثر من سواها ضمن نُزَلاء السّجون: 48.5% من المساجين ليسوا حاصلين على أيّ شهادة، و50% غير ممارسين لأيّ نشاط مهني عند إيداعهم السّجن. في نفس الوقت وباستثناء بعض القضايا التي راجت إعلامياً، تتخلّى السلطات الرّادعة عن مكافحة الإجرام الاقتصادي والمالي الكبير، وتظلّ أولويتُها متمثّلة في المعالجة السّريعة للانحراف الأبرز للعيان، وهي جرائم الطريق العامّ. لقد مرّ العدد الجملي للمُحققين المختصّين في المجالين الاقتصادي والمالي، مع نقصه الكبير أصلاً، من 529 سنة 2013 إلى 514 بعد أربع سنوات.

أثـــارمدمـّـــرة للعنـــف البوليســـي: من خلال نموذج الاقتصاديات النيولبراليّة، يمكن القول إنه  إذا كان «الحسّ الأمني السليم» فاشلاً إلى هذا الحدّ في تحقيق الأهداف التي ضبطها لنفسه فذلك لأنّنا لم نخُض في القمْع بالقدر الكافي. لكننا يمكن أن نقدّر كذلك أنّ ما حدث يرجع إلى أنّه يتناول المشكل تناولاً معكوساً تماماً. أن يكون الإنسان في مأمن لا يعني الالتجاء إلى اعتباطيّة الحكم القمعي مقابل ضمان وهميّ من كلّ خطر اعتداء: بل هو التمتّع بحماية القانون من كلّ تجاوز للسّلطة سواء صدر عن أشخاص ماديين أو معنويين خواص أو من سلطات عموميّة.

إنّ مطلب الأمان باعتباره حجرَ الزاوية للنظام العدلي الذي يتمّ إرساؤه بعد الثورة مطلب يفترض المساواة العدليّة بين الأفراد مهما كان موقعُهم في المجتمع. بعيداً عن تبرير القوّة المُطلقة للسّلطات تقتضي هذه الأخيرة خضوعَها للقانون وبالتبعيّة توفير الحماية القضائية الفعليّة للأشخاص الأكثر هشاشة. لقد جاء في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 أنّ القانون «ينبغي أن يكون واحداً بالنسبة إلى الجميع سواء في مستوى الحماية أو العقاب». إن اشتراط السّلوك المثالي يجب أن ينطبق بالدرجة الأولى على ممثّلي السلطات العموميّة. للقطع مع قانون النظام القديم، جاء القانون الجنائي لسنة 1791 ليرسي عدداً كبيراً من الجرائم والجُنَح قصد ردْع التجاوزات التي يرتكبها الأعوان العموميّون (مثل اختلاس الأموال أو استغلال النّفوذ). هو بذلك يترجم فكرة المؤسّسين التي ترى أنّ الاعتداء على حرّية الغير تصبح أشدّ خطراً عندما تصدر عن شخص مُكلّفٍ بتمثيل المصلحة العامّة. وهنا يتمّ التعبير لا عن التطلّعات الديمقراطية الجذريّة للفاعلين خلال فترة الجمهورية الأولى فحسب بل وكذلك عن براغماتيتهم العميقة. في سنة 1791، أكّد «لويس-ميشال لوبلتيي دو سان فارغو أحد واضعي التّشريع الجنائي الثوري- أنّ «شرطة جيّدة ذات أخلاق جيّدة هي ما يجب أن يتوفّر لشعب حرّ بدلاً من التّعذيب. لقد لاحظنا أنّه حيثما يسود الاستبداد تتضاعف الجرائم، وهذا يرجع إلى أنّ الإنسان مُحتقر في ظلّ هذه الأنظمة. ويمكننا أن نقول إنّ الحرية شبيهة بتلك النباتات القويّة المتينة، ستُطهّر عمّا قريب التُّربة الزّكيّة التي نبتت فيها من كلّ إنتاج فاسد».

هذه الملاحظة مازالت نَضِرَة جديدة. ذلك أنّ الواقع يثبت أن البلدان التي تمارس قمعاً غير متناسب تطبّقه شرطة تغلب عليها العسكرة، شأن البرازيل والمكسيك وكولمبيا، تشهد أعلى نسبة من جرائم القتل العمْد بحساب الفرد. على عكس المتوقّع، لا تحدّ هذه السياسة من العنف بل تساهم في تفاقمه عبر مُزايدة عدوانيّة تدفع مرتكبي المخالفات بدورهم إلى التنظّم. تجمع الولايات المتحدة الأمريكية بين منظومة قمعيّة من أكثر المنظومات تصلّباً –إذ فيها حوالي ربع نزلاء السّجون في العالم- ونسبة جرائم القتل العمد تظلّ، حتّى وإنْ هي بصدد التّناقص، لا تُقارَن بما هو مُسجّل في البلدان الأوروبية: 5،35 بالنسبة إلى كلّ 100 ألف ساكن سنة 2016، مقابل 1،35 في فرنسا و1،18 في ألمانيا وذلك وفقاً لديوان الأمم المتحدة ضد المخدرات والجريمة.

بناء على ذلك تعتبر الطريقة التي يتم بها التّوقّي من التّجاوزات التي ترتكبها أجهزة الشرطة وضبطُها والمحاسبة عليها طريقة حاسمة بالنسبة إلى صحّة الديمقراطيّة. إنّ كلّ الاخلالات في هذا المجال لا تجعلنا عُرضة لاعتباطيّة السلطات العموميّة فحسب بل وكذلك إلى ارتفاع منسوب العنف. هي تُسبّب بالفعل تطرّفاً في السلوكيات الانحرافيّة التي نزعم مقاومتَها، مع ما يصاحب ذلك من إساءة لعلاقة الثّقة القائمة بين قوات النظام وبين عموم السكّان إذ قد يصبح السكّان ممتنعين عن الإبلاغ عن المخالفات المرتكبة، بل، وهذا أدهى، يميلون إلى ممارسة العنف الشخصي لفضّ النّزاعات. في نفس السياق، ينبغي الإلحاح على ضرورة معاقبة انحرافات المكوّنات الأخرى للطبقة الحاكمة وخاصّة منها النّخب الاقتصاديّة بحسب مدى إضرارها بالتّماسك الاجتماعي. إنّ آثار أعمال السّطو الاقتصادي تزداد خطورةً لأن مرتكبيها أشخاص يحتلّون مواقع نفوذ. أولاً وبلا شك، بسبب اتّساعها المُحتمل: يؤدي التهرّب الضّريبي إلى نقص في الميزانية يقدّر بعدّة عشرات من المليارات بحساب اليورو. مع ذلك، أفادت الإحصائيات أن سنة 2016 لم تشهد سوى صدور 524 حكماً بتهمة التهرّب الضريبي، والمصالح الجبائيّة لا توجّه إلى القضاء إلاّ أقلّ من 1000 حالة من مجموع 15 ألف حالة يتمّ ضبطُها سنويّاً. بشكل أعمّ، لا تمثل المخالفات الاقتصاديّة والماليّة سوى 3 % من مجموع التتبعات الجزائيّة بالنسبة إلى عاميْ 2016 و2017.

من جهة أخرى، هناك خطر كبير حين نلاحظ أنّ الممارسات الإجرامية التي ترتكبها الطبقات الحاكمة قد احتلّت حيّزاً مركزيّاً في العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة مقابل انهيار تامّ للحماية العدليّة التي يمكن أن يتمتّع بها المواطنون. إذ يمكن أن يجد هؤلاء المواطنون أنفسَهم مُجْبَرين على دفع معاليم خفيّة مقابل مجرّد الحصول على ممارسة حقوقهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في الوقت الذي يعرّضهم فيه الفساد وخوصصة الآلة القمعيّة اللذيْن يأتيهما الأثرياء إلى العُنْف البوليسي أو إلى إفلات العنف الخاصّ من العقاب، إذا وقع –لسوء حظّهم- الدخول في نزاع معهم.

من جهة أخرى، فإنّ البلدان التي تَعرف نسبة مرتفعة من فساد النّخب تشكو من تسيّب عامّ من حيث احترام القانون لدى عموم الشعب: حيثما ساد تحيّل الكبار تصبح السّرقة أمراً شائعاً بل طبيعيّاً في المعاملات مع مؤسّسات الدّوْلة، وخاصّة في المجال الجبائي. في ايطاليا مثلاً، كان للتّسلل المافيوزي دور في جعل الشّعب أكثر تسامحاً مع التهرّب الجبائي، وبصفة أعمّ مع كلّ (الأساليب الدنيئة في التّعامل مع القانون). هنا نجد مرّة أخرى، أنّ تطبيق القانون على الطبقات العليا يمسّ أمْن الجميع بصفة مباشرة. في المقابل، لا نستطيع أن نكون حريصين كلّ الحِرْص في ما يتعلّق بالظروف التي يُمكن للأشخاص الأكثر هشاشة أنْ يطالبوا فيها بحقوقهم، وخاصّة عندما يقع اتّهامُهم من طرف قوى عموميّة أو خاصّة. بعبارة أخرى، تقاس الفاعليّة الديمقراطيّة لنظام عدليّ مَا أيضاً بقدرته على الاشتغال بطريقة نزيهة، أي ضمان الحماية القانونيّة للذين لا يملكون بصفة ظرفيّة أو هيكليّة أيّ مورد (اقتصادي، ثقافي، اجتماعي) للدّفاع عن مصالحهم. في هذا الإطار، المكانة المخصّصة للفئات الضّعيفة مثل الأطفال والمساجين والرّعايا الأجانب، وبصفة أشمل كلّ من يجدون أنفسَهم في حال هشاشة اقتصاديّة واجتماعيّة، تمثّل مؤشّراً حاسماً.بنفس الطريقة التي تؤثّر بها عمليّة معاقبة اللاشرعيّة في الطبقات القياديّة في المستوى العامّ لتطبيق القانون داخل المجتمع فإنّ الحماية القانونيّة التي يتمتّع بها الأشخاص ذو الوضعيّة الهشّة يمكن أن تُقوّى، أو بالعكس تُضْعِف أمانَ كلّ مواطن، فكلّما زاد دفع السّلطات إلى احترام حقوق الفقراء كلّما زاد حرصها على احترام حقوق الأشخاص الذين لهم من الإمكانيات ما يتيح لهم المطالبة بها بأنفسهم. وعلى النقيض من ذلك، يمكن لضعف الضّمانات المعترف بها لبعض الأشخاص أن تتوسّع لتشمل البقيّة بكلّ يُسْر.

لقد أمكننا ملاحظة ذلك مع إجراءات الحدّ من الحرّيّات التي لعب فيها حقّ الأجانب دور مخبر التجارب. إنّ عمليات تحديد الإقامة بالنسبة إلى الأشخاص المحكوم عليهم بمغادرة التّراب الفرنسي والتي تمّ إصدارها دون رقابة قضائيّة جرى توسيعها بعد ذلك لتشمل المُشجّعين الذين يُتوقَّع منهم القيام بأعمال عنف، ولم يَسمح بتجنّب تطبيقها على المتظاهرين إلاّ اعتراض المجلس الدّستوري عليها. إنّ فرضَ درجة موحّدة لتطبيق القانون من أعلى المجتمع إلى أسفله يمثّل رهاناً ديمقراطيّاً من الطّراز الرّفيع. إذا أفلحنا في جعل دولة القانون أمراً ملموساً بالنسبة إلى أغلبية المواطنين فإنّ هؤلاء سيمتنعون نهائيّا عن تصديق البلاغة الأمنيّة.