دراساتصحيفة البعث

الثالوث النووي الصيني

ريا خوري

 

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية حالة هوس من الصين التي بدأت ملامح نهوضها تظهر في السنوات الماضية، وهو ما دفع أمريكا للعمل بكل السبل للجم التنين التقني الذي تقوده بقوة شركة (هواوي)، واستبعاد الاستثمارات الصينية عن السوق الأمريكية، ليس هذا فحسب، بل تجاوز الأمر الصناعات التقنية، وغيرها إلى الصناعات غير التقليدية، ومن هنا طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن تشترك الصين في مفاوضات نزع الأسلحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.

منذ أن تم القيام باختبار لأول قنبلة نووية قبل نحو 56 عاماً، لم تكشف الصين نهائياً عن أي تقدير أولي لحجم ترسانتها النووية، لذا فإن النقاش الأخير على وسائل التواصل الاجتماعي في الصين حول ضرورة الكشف عما تملكه الصين من رؤوس نووية حربية كان لافتاً للنظر بسبب ما تملكه من خصوصية، فقد بدأت الحملة على وسائل التواصل الاجتماعي باقتراح من محرر صحيفة شعبية وطنية في بكين بأن الصين يجب أن تزيد وتوسع من مخزونها النووي حتى يصل إلى أكثر من ألف رأس نووي، بما في ذلك صواريخ (دي اف 41)، وهو نوع جديد من الصواريخ عابرة للقارات وقادرة على الضرب في أي مكان في الولايات المتحدة، هذا الكلام برمته زعزع أركان الولايات المتحدة وزاد من مخاوفها، لذا فهي تحث الصين على مزيد من الشفافية والصراحة حول نواياها، وتطلب منها أن تتخلى عن التكتم والصمت، وأن تنضم إلى روسيا والولايات المتحدة في وضع حدود لحجم الترسانة النووية لكل منها.

كان استعراض الصواريخ الجديدة (دي اف 41) في عرض عسكري مهيب بمناسبة اليوم الوطني للصين في شهر تشرين الأول الماضي أحد أهم الأسباب التي زادت من حرص الولايات المتحدة على دفع الصين نحو المزيد من الشفافية والوضوح، فهذا الطراز من الصواريخ هو أول صاروخ بعيد المدى تكشف عنه الصين محمولاً على عربات متحركة، ما يجعل كشفه ومتابعته من قبل الولايات المتحدة أمراً عسيراً، مقارنة مع الصواريخ من أنواع أخرى التي تطلق من منصات ثابتة.

إزاء ذلك التطور قال الجنرال روبرت آشلي، وهو من كبار مسؤولي البنتاغون، ورئيس هيئة معلومات الدفاع في معهد هدسون: “من خلال إعلانها عن مقذوفات استراتيجية جديدة قادرة على حمل رؤوس نووية، سوف تفرض الصين في الوقت القريب نسختها الخاصة بها من الثالوث النووي، وهذا يدل على استمرار الصين في تصميمها على توسيع وزيادة دور ومركزية قوتها النووية المرعبة في تطلعاتها العسكرية المستقبلية”.

إن الصين بتكتمها عن برنامجها النووي وعمليات تطويره تهدف في بعض ما تهدف إليه إلى ضمان قوتها وقدرتها على النجاة من ضربة مفاجئة من الأسلحة النووية الأمريكية فائقة الدقة، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت العام الماضي من معاهدة مع روسيا تتعلق بحظر إطلاق الصواريخ الأرضية متوسطة المدى بدعوى عدم شفافية ومصداقية روسيا، وانسحبت أيضاً من الاتفاق النووي الإيراني قبل نحو عامين.

الصين ترخي الآن بظلالها على المعاهدة النووية الوحيدة التي لاتزال تربط الولايات المتحدة وروسيا “معاهدة ستارت الجديدة” التي تم التوقيع عليها في عام 2010، وتغطي الأسلحة الاستراتيجية بعيدة المدى، وتسمح لكل جانب بالدخول إلى منشآت الآخر وتفتيشها، هذه الاتفاقية تنتهي في شهر شباط المقبل من عام 2021، ويمكن أن يتم تجديدها باتفاق الطرفين، لذلك فقد لاحظنا من خلال استئناف المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة نهاية شهر حزيران الماضي في النمسا بشأن إمكانية تجديد المعاهدة، أن الولايات المتحدة تصر على انضمام الصين إليها جراء المخاوف والهواجس الأمريكية، ولكن إذا ما تم ذلك فإنه سيعيد إلى أذهان الشعب الصيني فكرة  “معاهدة غير متكافئة”، وهي عبارة شائعة تشير بوضوح إلى المعاهدات السيئة التي اضطرت البلاد للتوقيع عليها مع الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وذلك لأن ترسانتها النووية لا يمكن أن تقارن بترسانتي الولايات المتحدة وروسيا.

وفي هذا الشأن قدم معهد أبحاث السلام وسياسة الأمن في جامعة هامبورغ  تقريراً هاماً يقترح فيه عدة طرق لكسر الجمود والانكماش، يقول زهاو، وهو زميل قديم في مركز “كارنيجي- تسينج هوا” للسياسة العالمية في الصين: إن صفقة ثلاثية يمكن أن تبدأ بالاتفاق على وجود حد أقصى لعدد الصواريخ متوسطة المدى، بحيث يمكن أن توازي قدرات الصين من الصواريخ الأرضية قدرات الولايات المتحدة الأمريكية من الصواريخ التي يتم إطلاقها من الجو، أو يمكن أن تشمل الاتفاقية أنظمة مثل (قاذفات استراتيجية أرضية، ومنصات محمولة على غواصات) بمدى يصل إلى نحو 500 كم، وتتساوى ملكية الدول الثلاث من هذه الفئة على عكس الرؤوس النووية الحربية التي تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أكبر عدد منها.

قادة الصين قد يفكرون بشكل جدي للدخول إلى المفاوضات، وما دفعهم لذلك هو مخاطر غياب الصين التي ستترتب عليها بداية جديدة في إطار سباق التسلّح النووي، وهذا يعطي الولايات المتحدة فرصة ذهبية من أجل تطوير ترسانتها، وإخفائها نهائياً عن أعين العالم، وهذا الأمر يدفع الصين للدخول في سباق تسلّح معها، وما يترتب عليه من أعباء مالية باهظة جداً على حساب تطوير اقتصادها، وخطط انتشارها وتوسعها عالمياً، لكن بكين وموسكو ليستا حريصتين على المحادثات الثلاثية- أمريكا والصين وروسيا- فقد جددت بكين رفضها فكرة الدخول في المفاوضات مرة أخرى، وقالت موسكو مؤخراً إنه إذا أرادت واشنطن إشراك بكين في مفاوضات الأسلحة النووية، فعليها أن تدع موسكو خارجها، وكانت روسيا قد طالبت في وقت سابق بأن تنضم كل من فرنسا وبريطانيا إلى المفاوضات في حال انضمت الصين إليها لامتلاكهما 485 رأساً نووياً.