ثقافةصحيفة البعث

رثاء النّفس بين الملُّوحي وابن الرَّيب

يزخر الأدب العربي بتراث شعري غني بالرِّثاء، يمثل مختلف العصور والاتجاهات الفكرية والادبية، ولعل أقدمها ما أبدعته قرائح الجاهليين. وقد تطور هذا الفن وتعددت دواعيه وبواعثه، عبر العصور، وبقي الأكثر قربا من الوجدان والعاطفة، لارتباطه بالفقد والشوق والحنين، وفق الموضوعات التي خصها، ومنها رثاء النَّفس الذي كان موضوع محاضرة فرع حمص لاتحاد الكتاب العربي، بعد عودة الحياة الثقافية إلى ردهاته إثر غيابها في الشهرين الماضيين.

عنوان البحث الذي قدمه د. وليد سراقبي كان “رثاء النفس بين الشاعرين مالك بن الريب وعبد المعين الملوحي”، وفيه يتوقف عند مواضع التناص في موضوع الرثاء والأسلوب الشعري بين الاثنين، من خلال دراسة قصيدة ابن الريب اليائيَّة والتي مطلعها:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بجنب الغضا أزجي القلاص النَّواجيا.

ومرثية الملوحي الشاعر الحمصي التي نشرتها مجلة الثقافة الدمشقية لصاحبها الأديب مدحة عكاش في عدد خاص بأدباء حمص سنة ١٩٨٣، وهي معلقة طويلة تحمل عنوان “عبد المعين الملوحي يرثي نفسه”، وتزيد ثلاثة أضعاف عن قصيدة ابن الريب، فقد بلغ عدد أبياتها 166 بيتا، في حين بلغت قصيدة الآخر 67 بيتا.

صدَّر الملوحي قصيدته بإهداء يقول: “إلى مالك بن الريب الذي رثى نفسه وهو يموت..”، وقسّم قصيدته إلى أحد عشر قسما هي: مقدمة، لماذا أرثي نفسي، حياتي، ماذا بعدي، أنا والشعوب، وصيتي، العطاء والحب، تمنيات، هموم شخصية وقومية، خاتمة المطاف.

يشير الملوحي في مقدمته إلى تلاقيه مع ابن الريب في الأماني الخادعة التي أضلّت عليهما، وما قبضا إلاّ على سراب، فابن الريب تمنى أن يبيت ليلة جنب الغضا يزجي القلاص النَّواجيا، وتمنى الملوحي أن يبيت ليلة واحدة يسبح فيها في عاصيها ويلقى لذاته، ولكنها أضغاث أحلام مضلّة، وسراب يتراءى لركب أبناء الحياة الملفوحين بحرِّها، فإذا جاؤوا لم يقبضوا إلّا على سراب خادع يزيد في اللوبان والعطش:

تمنيت يا ابن الريب لو بتَّ ليلة    بجنب الغضا تزجي القلاص النَّواجيا

وأمنيتي لوبتُّ في حمص ليلة      فأسبح في العاصي وألقى لداتيا.

وعن السبب الذي دفع الملوحي لقول هذه المرثيّة يرى سراقبي أنه يختلف عن دافع ابن الرَّيب الذي حال قرب وفاته دون زيارة الغضا، في حين دافع الأخير ذاتي يرتبط بشوق لأصدقائه وأترابه.

إذا كان شعري، كل شعري مراثيا    فمالي بنفسي لا أعدُّ رثائيا؟

لكن الفارق بين رثاء الاثنين أن ابن الرَّيب فاضت قريحته وهو يحسُّ أنَّه قد وضع قدميه على مدرجة النّهاية المحتومة، في حين أن الملوحي الواعي بالفرق بينه وبين الآخر،  مازال يحسُّ بدمائه الموّارة تئز في عروقه.

وأقسى المآسي أنني بتُّ رائيا    حياتي، مازالت تمور دمائيا.

وينتقل الملوحي إلى قسمة حياته مرحلة مرحلة ليعرض فيها إنجازاته، في كل مرحلة، لكن الأخيرة عنده لا تفترق عن الأولى، فالحياة أثيرة لديه، يحبها ولو كانت في كوخ من القشّ، فيكفيه أن يستطيع صوغ أحاسيسه وشدو قصائده.

تلتقي مرثية الملوحي ومرثية ابن الرَّيب في جملة من الأمور مننها: الموضوع، البنية، الإيقاعية، الثنائية، السّردية. فالقصيدتان تتكئان على السَّردية التي يناسبها البحر الذي نظمت عليه كلتاهما، فالقصيدتان تشكّلان معرضين لحياة كلّ منهما، وما كانت عليه حياتهما، وما آلت إليه الآن، ولكن السَّردية كانت أكثر ظهورا في معلّقة الملوحي، وقد أعانه تقطيع القصيدة إلى مقاطع تخصّ كل مرحلة من مراحل حياته، وقد كانت تقنية استعمال الزمن الماضي في تحقيق هذه السَّردية واضحة كل الوضوح، سواء باستعمال بنية الماضي الحقيقي أم بنية المضارع المتّجه زمنيا إلى الماضي بتقدم لم النَّافية عليه.

رشفت شبابي قطرة بعد قطرة      وشبت فلم يعتب عليّ شبابيا

وفي الثنائية تلتقي قصيدتا الشاعرين في أن كلتيهما طافحة بالثنائية، بالشيء ونقيضه، فكلاهما تهاوت أحلامه وانكسرت أمام لحظة الموت.

وفي البنية الإيقاعية نظمت كلتا القصيدتين على البحر الطويل وهو البحر المتحمل لتعدد الموضوعات، فأسبابه وأوتاده وحركاته وسكناته تتسع لكل هذا التّنوع، فالقصيدتان تتناصان وزنا وقافية ورويَّا، وعلى كثرة القصائد المنظومة على هذا البحر وهذا الروي نجد أن قصيدة الملوحي أكثر اتّكاء على قصيدة ابن الرَّيب، فبداية من العنوان نجد أن الملّوحي يعي لحظة الإبداع وأنه يحذو حذو ابن الرَّيب وقد توسل الملوحي كما توسل ابن الرَّيب بعدد من التقنيات القائمة على التكرار الملفوظ والملحوظ، والمطابقة بين الشيء ونقيضه، وتكرار كلمات ذات بنيات مقطعة متشابهة والأمثلة على ذلك متناثرة في أبيات القصيدة، ومن ذلك: زاهيا-كابيا، المبكيات -المضحكات، مهازلا -مآسيا، لاهيا-واهيا.

آصف إبراهيم