أخبارصحيفة البعث

الاعتداءات الأمريكية والتركية على الجزيرة السورية

السيادة هي الركن الثالث من أركان الدولة، ونعني بها وجود هيئة حاكمة منظّمة مهمتها الإشراف على الإقليم، ومن يقيمون عليه، بحيث يكون لها الحق في أن تصدر الأوامر الملزمة إلى كل أفراد الجماعة. وهو ما يعبّر عنه جانب من الفقه بمصطلح “السلطة” التي وجدت، وما يتفرّع عنها من “حق الأمر” Le Commandement، منذ وجود المجتمع السياسي، لا بل إنها الشرط اللازم لقيام هذا المجتمع، وتمييزه عن المجتمعات الأخرى.

وتتميّز سلطة الدولة بكونها أصلية، غير مشتقة، ولا مفوَّضة، وهذا يعني أنها سلطة مستقلة، وسلطة أصلية تتفرّع عنها سائر السلطات الأخرى. وهي دائمة ومستمرة، وتشكّل أساس التنظيم السياسي في الدولة. كما أنها سلطة عامة وعليا، أي أنها ذات اختصاص عام يشمل جميع أوجه النشاط في الدولة. فضلاً عن أنها سلطة متفرّدة كونها تنفرّد بوضع القوانين، وتكفل احترام هذه القواعد ولو باللجوء إلى القوة. وسلطة محتكرة، لأن الدولة تملك وحدها سلطة الإكراه المادي، كي تسيطر على كامل الإقليم، وتؤمّن احترام القانون. أخيراً إنها سلطة مؤسساتية، لأنها تقوم على مبدأ الفصل بين الحاكم كسلطة عامة، والحاكم كفرد عادي.

هذا يقودنا إلى نتيجة مفادها هو سيادة الدولة تقع على كامل إقليمها الذي يشمل:

1- الإقليم الأرضي: وهو الجزء من اليابسة الذي تباشر عليه الدولة سيادتها، وسلطانها. ولتحديد مساحة إقليم الدولة، وبيان حدوده، أهمية قانونية كبيرة،

إذ تمارس الدولة سلطانها وسيادتها داخل هذه الحدود. ونظراً لأن أغلب المنازعات بين الدول سببها تحديد الإقليم الأرضي لكل منها، فقد ذهب الكثير من الدول إلى بيان حدودها من خلال الاتفاقيات الدولية، أو اعتماداً على العرف الدولي.

2- الإقليم المائي: ويشمل ما يتخلل سطح الأرض من أنهارٍ وبحيرات داخلية. كما يشمل المياه الملاصقة لحدود الدولة الممتدة داخل البحر إلى المسافة التي يحددها العرف والاتفاقات الدولية، وهو ما يطلق عليه اسم البحر الإقليمي.

3- الإقليم الجوي: الذي يشمل ما فوق إقليم الدولة الأرضي والمائي. وتسيطر الدولة على إقليمها الجوي كما تسيطر على اليابسة والماء، وليس لأي دولة أن تستعمل المجال الجوي لدولة أخرى بغير إذنٍ منها.

وبالعودة إلى موضوعنا المباشر، فإن الجزيرة السورية، ومنذ آلاف السنين هي جزء لا يتجزأ من الأرض السورية، وهو أمر ليس موضع خلاف في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وتملك الدولة السورية كامل سيادتها وسلطتها على هذه المنطقة الجغرافية من البلاد، وكل وجود أجنبي بغير موافقة الحكومة السورية هو وجود غير شرعي، يستوي في ذلك قوى الاحتلال الأمريكي، والتركي، والعصابات الإرهابية المدعومة من قبلهما، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تنظيم “داعش” الإرهابي، وتنظيم “جبهة النصرة” الإرهابي، وكذلك القوى الانفصالية، ومثالها تنظيم “قسد الإرهابي”.

ومن نافلة القول هنا أن الأطماع التركية في عموم الشرق لأوسط، وفي سورية خصوصاً، وفي منطقة الجزيرة السورية بشكل أخص، ليست حديثة العهد، فقد عاشت المنطقة بأسرها أربعة قرون من الاحتلال التركي الذي جلب كل مظهر الجهل والتخلّف إلى المنطقة، وبعد انهيار الحكم العثماني، وانسحاب الترك من بلادنا، جاءنا الاستعمار بثوب جديد، فكان الانتداب الفرنسي على سورية، وما لبثت الاطماع التركية بالظهور مجدداً، فتمّ انتزاع لواء إسكندرون في أقصى شمال غربي سورية، حيث ضمّته تركيا عام 1939 بعد أن تنازلت لها عنه فرنسا، وعدّته تركيا إحدى محافظاتها، مطلقة عليه اسم محافظة (هاتاي)، على مساحة تبلغ 4800 كم مربع، مع أن غالبية سكانه من العرب، ففي عام 1937 كانت “عصبة الأمم” قد أصدرت قراراً بفصل لواء اسكندرون عن سورية، وتعيين حاكم فرنسي عليه، وبتاريخ 15/7/1938 دخلت القوات التركية مدن اللواء، مع تراجع الجيش الفرنسي، وفي عام 1939 نظّمت فرنسا استفتاءً في الإقليم في ظلّ مقاطعة العرب لهذا الاستفتاء غير الشرعي، وغير المسوّغ، فكان أن أعطي لواء اسكندرون ممن لا يملك إلى من لا يستحق، وهو ما أجج المقاومة الشعبية في اللواء منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وإلى أن يتحرر ويعود إلى الوطن الأم.

ولم تكن الاعتداءات التركية التي تخالف القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية مقصورة من حيث نطاقها الزمني على فترة الأزمة السورية، وإنما كانت قبل ذلك، لكن وتيرتها زادت خلال فترة الأحداث التي مرّت بها البلاد، ذلك أن تركيا عمدت قبل هذه التاريخ بكثير إلى سلسلة من الأفعال العدائية، ومن قبيل ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قطع مياه نهري “الخابور” و”جغجغ” بشكل كامل، وكذلك إقامة العديد من السدود على نهر الفرات، ما حال دون وصول كمية المياه المتفق عليه بموجب اتفاقية 1987 بين تركيا وسورية والعراق، فالمفترض وفقاً لهذه الاتفاقية دخول (500) متر مكعب في الثانية إلى سورية، تتوزّع بين سورية والعراق، لكن تركيا لم تتقيد مطلقاً بهذه النسبة، وبات نهر الفرات اليوم في حالة يرثى لها، فأصبح أشبه ما يكون بالجدول النتن الذي لا تصلح مياهه للشرب. كما قامت تركيا بزرع الألغام على نطاق واسع، ما تسبب في مقتل العديد من المدنيين الأبرياء، ولكنها، وقبيل بدء الأزمة السورية بقليل، قامت بتفكيك هذه الألغام، وهو ما عرف القصد منه لاحقاً عندما تبيّن أن السبب في ذلك هو تسهيل دخول الآلاف من الإرهابيين من مختلف أصقاع الأرض، كي يعيثوا فساداً وقتلاً وتدميراً في كل أنحاء سورية. وكان لتركيا النصيب الأكبر في عبور الإرهابيين إلى بلادنا، فحتى عام 2016 كان عدد الإرهابيين ممن يحملون الجنسية التركية قد تجاوز (25,000) إرهابي، قتل معظمهم على أيدي الجيش العربي السوري، وألقى القبض على البعض الآخر.

لم يقتصر الأمر على هذا النحو، بل عمدت تركيا – ولا تزال- إلى تقديم كامل أنواع الدعم اللوجستي والمادي والبشري إلى العصابات الإرهابية المسلّحة من خلال تقديم المعلومات الاستخباراتية، والأموال، والعتاد، والتدريب، والتسليح، والمعالجة الطبية.

ومع اندحار العصابات الإرهابية المسلّحة تدخّلت تركيا بشكل مباشر باحتلالها عدداً من المدن التي تقع على الشريط الحدودي بين تركيا وسورية في محافظات حلب والرقة والحسكة، فتمّ احتلال ريف حلب الشمالي بتاريخ 24/8/2016، وعفرين بتاريخ 20/1/2018، وتل أبيض ورأس العين بتاريخ 9/10/2019، ومدن وبلدات أخرى، حتى بلغت مساحة الأرض المحتلة نحو (8835) كم مربع، تضمّ أكثر من ألف بلدة (منها: الباب- إعزاز- دابق- جرابلس- جندريس- راجو- شيخ جديد…)،حيث توجد القوات التركية جنباً إلى جنب مع العصابات الإرهابية المسلحة.

وعلى الفور عمدت تركيا إلى سياسة التتريك في المناطق المحتلة، من خلال فرض استعمال اللغة التركية في المدارس والإدارات، وتداول العملة التركية، وإنشاء مبانٍ لقواتها العسكرية المحتلة. فضلاً عن الاستيلاء على مساكن المواطنين وممتلكاتهم وتسليمها إلى المرتزقة من الإرهابيين.

ولم تكن تصرّفات الولايات المتحدة أقلّ بشاعة، فمنذ بداية الأزمة السورية عام 2011 لم تتوقف الاعتداءات الأمريكية على عموم الأراضي السورية، وبخاصة الجزيرة السورية، ولم تتوقف ضغوط الولايات المتحدة بالاعتماد على معايير مزدوجة وأسس واهية، ومتناقضة. كل ذلك في وقت باتت فيه أساليبها مكشوفة للعالم بأسره، فبات العالم على دراية أن مبتغى هذه السياسات هو التدخّل في شؤون الدول، ونهب ثرواتها، وفرض أجندتها السياسية، فحيناً تتذّرع ببحثها المزعوم عن أسلحة الدمار الشامل في دولة كالعراق، وحيناً تتدخل باسم الديمقراطية، أو الحرية، أو حقوق الإنسان، أو لأسباب إنسانية، وهو ما تحاول الارتكاز عليه لتسويغ تدخّلها في سورية، ولكن من جديد يتضح زيف ادعاءاتها للكافة…

الولايات المتحدة التي تدّعي كذبا ورياءً حرصها على السوريين هي التي دعمت (الكيان الإسرائيلي) منذ أن زرع في أرض فلسطين، هذا الكيان القائم احتلال أراضي الغير بالقوة، بما في ذلك الجولان السوري، فهل لدولة مثل الولايات المتحدة لم تتخذ ولو لمرة واحدة أي قرار أو موقف دولي في صالح الشعب السوري أن تكون اليوم حريصة على مصالح هذا الشعب؟ وهل تكمن مصلحة الشعب السوري في دعم العدوان عليه، ودعم القوى الهمجية الإرهابية التي قتلت ودمرت وخرّبت كل معالم المدنية والحضارة في الدولة؟

بدورها تحتل الولايات المتحدة اليوم جزءاً من أرضنا بالقوة، كما أنها دعمت تركيا في احتلال جزء آخر، وقد تعلمنا عبر التاريخ أن المحتل لا يزرع الورود، ولا يمكن لنواياه أن تكون صادقة، وغايته نهب الشعوب، وسرقة ثرواتها وتراثها وحضارتها. وهناك العديد من الأمثلة الواقعية المستمدة من مجريات الأحداث السورية منذ عام 2011 وحتى تاريخه، فقد قدمت الولايات المتحدة دعماً مباشراً إلى العصابات الإرهابية المسلحة شمل المساعدات المادية، والدعم اللوجستي، وكل ما يلزم لاستمرار التنظيمات الإرهابية في مواصلة نشاطاتها، بما في ذلك التدخّل العسكري.

ولا يغربن عن البال أنه وحين كان أبناء محافظة “دير الزور” يعانون من حصار تنظيم “داعش” الإرهابي، فتقدّم الجيش العربي السوري لفك الحصار، وقد استعاد “جبل الثردة” من براثن الإرهاب، فإن الطيران الأمريكي قام بقصف الجيش العربي السوري،

ما مكّن التنظيم الإرهابي من استعادة مواقعه، والاستمرار في محاصرة المدينة، وكان هذا السيناريو يتكرر دائماً في مواقع مختلفة.

وقد قامت الولايات المتحدة بتدمير كامل الجسور على نهر الفرات، بما في ذلك الجسور الأثرية كالجسر المعلّق، وتدمير البنى التحتية كمحطات المياه والكهرباء… وكانت المروحيات الأمريكية تقوم بإلقاء منشورات كي يبتعد عناصر التنظيم الإرهابي عن المواقع المستهدفة.

وعندما تمّ تدمير محافظة “الرقة” بشكل كامل أتاحت الفرصة لعناصر التنظيم الإرهابي للخروج من المدينة قبل تدميرها. ولمّا تقدم الجيش العربي السوري وحرر المدن والقرى من تنظيم “داعش” الإرهابي سارعت الولايات المتحدة إلى نقل قادة التنظيم وعوائلهم إلى مناطق آمنة… وغير ذلك الكثير من التصرّفات المشابهة.

واليوم تحتل الولايات المتحدة، وتنظيم “قسد” الإرهابي معظم الضفة الشرقية لنهر الفرات وصولاً إلى الحدود التركية، والهدف استعماري بامتياز مبتغاه نهب ثروات المنطقة وخيراتها، ففي هذه المنطقة من سورية تتهافت اليوم قوى الشر والظلام، سواء تمثّل ذلك في قوى الاحتلال الأمريكي والتركي، أو في العديد من التنظيمات الإرهابية التي كانت

-ولا تزال- مدعومة من هذه القوى. ومثالها تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” وقسد”… ولم تتوانَ الولايات المتحدة وعصاباتها الإرهابية من السيطرة على حقول النفط كافة (مثل: كونيكوم- العمر- الجبسة- رميلان- كبيبة…).

وفي هذه المنطقة الكثير من الآثار والأوابد التاريخية السياحية هي الأقدم في العالم. وتعدّ التربة في هذه المنطقة من الأخصب في الشرق الأوسط، وبمساحات مسطحة في أغلب الأحيان. فضلاً عن وجود ثروات معدنية كثيرة إلى جانب النفط، منها: (الفوسفات- الإسمنت- الإسفلت- الملح الصخري- السيلكون الذي يعدّ من أجوع الأصناف الموجودة في العالم). ووجود ثروة حيوانية كبيرة، وخصوصاً الأغنام التي هي من أجود الأصناف العالمية.

إن كل ذرة تراب من سورية جديرة بالحفاظ عليها، وبتحريرها من رجس الاحتلال والإرهاب. وخير وسيلة لاستعادة أرضنا هي المقاومة الشعبية، فالعدو جبان، ويخشى المواجهة، أما التنظيمات الإرهابية، بما فيها تنظيم (قسد)، فهي ليست أكثر من أدوات، سينتهي دورها ما أن ينتهي وجود الاحتلال في المنطقة.

الرفيق الدكتور نجـم الأحمـد

أستاذ القانون العام في جامعة دمشق