مجلة البعث الأسبوعية

الرئة الخضراء اختنقت.. النيران التهمت الغابات والخطط استحالت رماداً

“البعث الأسبوعية” ــ ريم ربيع

ليست ثلوجاً – كما توحي للنظرة الأولى – تلك التي تكسو غابات وأحراش جبال مصياف واللاذقية وسهولها، هو الرماد فقط، سيد المشهد ومختصر الحكاية، فلم يعد هناك فارق بين مشهد دمار بعد حرب سنوات، ومشهد لما يفترض أن يكون الرئة والمتنفس والناجي الأخير من الحرب، فلكل منهما تفاصيله إلا أن الرماد يبقى السمة الرئيسية لكليهما.

أيامٌ متواصلة من النيران الممتدة التهمت الأخضر واليابس، لم ترحم الشجر ولا الحجر ولا البشر، ولا أي شكل للحياة، هناك حيث فقدت المحميات الطبيعية – التي أُنشأت للحفاظ على ما تبقى من أشجارٍ نادرة وحيوانات مهددة – فقدت حمايتها وخضارها ورائحتها الفواحة لتنضم إلى ما سبقها من جرود قاحلة تتزايد مساحتها عاماً بعد عام.

 

حسم الموقف

إذاً، فقد خبأ آب لهيبه لأيامه الأخيرة قبل أن يغادر ويسلم الدفة لخريفٍ يبدو أنه استبق اصفرار أوراق الأشجار وتساقطها ليحرقها بالكامل، فلأيام امتدت الحرائق في جبال مصياف وسهل الغاب وجبال اللاذقية ومحمياتها الطبيعية؛ وبينما كان الجميع مشغولاً بالتخطيط والحساب والتقييم والمراجعة والوعود، كما كل عام، بالاستعداد، استبقت النيران كل ذلك وحسمت الموقف وانتصرت أمام ترهلٍ خلفته سنوات من التأجيل لما هو ضروري، إذ لم يكن اشتعال الحرائق في هذه الفترة مفاجئاً، وإن جاء مبكراً قليلاً، إلا أنه بات معروفاً ومتوقعاً حد اليقين أن أيلول والتشرينين هي أشهر الحرائق بامتياز، ولعل دخان الأعوام السابقة، الذي لم يخمد بعد، شاهد على ذلك، فأين هو الاستعداد والتحضير والتأهب والدروس والعبر؟

 

مفاجأة سنوية!

هل فوجئ المعنيون بوعورة الأراضي؟ أليسوا أبناء تلك الأراضي ويقتضي عملهم زيارتها ولو من باب رفع العتب بين الفترة والأخرى، أم أنهم مجرد سائحين فيها؟ وإن كان يستحيل شق طرقات في بعضها، ألا يفترض وجود بدائل أحدها الحوامات والمطارات الزراعية!؟ أين هي الخطط لمواجهة الحرائق؟ وكم عاماً يفترض أن ننتظر حتى نرى استعداداً وتجاوباً لحدث بات تقليداً سنوياً؟ ورغم أنه يسجل لرجال الإطفاء والدفاع المدني جهود حثيثة في عمليات الإطفاء وتطويق الحرائق، إلا أنه كان من المستغرب – وبلسان أبناء قرى مصياف – تأخر الاستجابة حتى خرج الوضع عن السيطرة؛ فاليوم الأول من الحريق، الذي كانت بدايته في أحراش قرية بيرة الجرد، قبل أن يمتد ليشمل القرى المجاورة، مرّ مرور الكرام، ولم تتدخل سوى آليات قليلة مما هو “في متناول الأيدي”، حتى تفاقم الوضع في نهاية اليوم الثاني، وبدأ التدخل من آليات وفرق إطفاء المحافظات والمناطق المجاورة، إلا أنه حينها كان “اللي ضرب ضرب”، بحسب توصيف الأهالي، فالتجاوب جاء متأخراً، ولم يدرك المعنيون خطورة الموقف فعلياً حتى اليوم الثالث، حين بدأت النيران تقترب من منازل بعض القرى، كالفندارة والمشرفة والنهضة والمجوي، ووجد أبناء تلك القرى أنفسهم وجهاً لوجه مع جنون النيران وامتدادها!!

 

من المسؤول؟

أما حرائق الغاب، فقد أكد الأهالي أنها ليست بريئة من أيدي مافيات الفحم والحطب. وكان وزير الزراعة قد ألمح لهذا الأمر حين أعلن عن تحقيقات ستكشف عن الفاعل خلال فترة قصيرة، ومثله مسؤولو الحراج في المنطقة الذين رجحوا أن حريق عين الكروم، الذي كان أول الحرائق، مفتعل في الغالب. أما الحريق الذي اندلع في محمية الشوح في اللاذقية “أكبر وأهم المحميات السورية” فهو – حتى كتابة هذا التقرير – مجهول السبب، إلا أن صوراً عن مشاحر صناعة الفحم في قلب المحمية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت موجة انتقاد للإهمال والتساهل أمام التهديد الذي تشكله تلك المشاحر بمخالفتها الصريحة للقانون، دون نفي أو تأكيد لصحة هذه الصور من قبل المعنيين بعد، فيما وصف فوج إطفاء اللاذقية، في منشور له على “فيسبوك”، الحديث عن إشعال الحرائق للحصول على فحم بالغباء، فالخشب المحروق لا يصلح ليكون فحم أركيلة، وبحسب المنشور فإن شهري أيلول وتشرين الأول يشهدان رياحاً قوية، لذلك تمتد الحرائق بسرعة ويصعب السيطرة عليها، معتبرين أن المواطنين وإهمال المزارعين للقش من أول مسببات الحرائق.

 

استراتيجية للمستقبل!

وأوضح فوج إطفاء اللاذقية أن منظومة الإطفاء كانت تستعين بالحوامات العسكرية قبل الأزمة، إلا أنها لم تشارك خلال الأزمة بإطفاء أي حريق والسبب مجهول، فيما بيّن وزير الزراعة، حسان قطنا، خلال جولة له في سهل الغاب، أن الحوامات غير متوفرة حالياً، وفي المستقبل سيتم وضع استراتيجية للإفادة من كافة الأدوات، كاشفاً أن نظام الإنذار المبكر للحرائق غير ناجح في بعض الأحيان.

وخلال الجولة، أوضح الوزير قطنا أن الحرائق أتت على ألفي دونم من السنديان والصنوبريات في الغاب، وبحسب مدير زراعة حماة فقد تضررت مائة هكتار من الأراضي الزراعية، وخمسمائة هكتار أراض حراجية، متهماً بدوره المزارعين بالإهمال. وبيّنت مصادر أهلية في مصياف أن الحريق امتد على مساحة سبعة ألاف دونم في جبال المشرفة والمجوي والنهضة والشميسة، وزحفت النيران 4 كم خلال 3 أيام. وخلال كتابة هذا التقرير، عاودت النيران الاشتعال قرب قرية الفندارة في ريف مصياف بعد أن أكدت زراعة مصياف إطفاء الحرائق كلها. وعلى الجهة الأخرى، يمتد حريق اندلع في صلنفة في ريف اللاذقية إلى قرى سهل الغاب دون أن يتم السيطرة عليه لوعورة الطريق مسبباً أضراراً كبيرة.

 

تشجير

عشرات السنوات ستتطلبها استعادة الغطاء الأخضر الذي احترق، قدرها البعض بـ 30 إلى 50 عاماً، وهنا يتبين حجم الكارثة على المنظومة البيئية ككل، ولا بد أن التعويل اليوم بشكل أساس على المجتمع الأهلي إلى جانب الخطط الزراعية لإعادة تشجير تلك المناطق بأسرع وقت ممكن، قبل أن يغزونا التصحر والرماد بقصد أو بغير قصد..