مجلة البعث الأسبوعية

من يقنع من بأن القطاع الصناعي ضمانة المجتمع؟ الاقتصاد الريعي يُضعف الليرة ويُفقر الملايين وقرارات الفريق الاقتصادي ارتجالية لا تخدم سوى كبار المستوردين!

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

ما من حكومة، منذ عام 2003، إلا وأكدت أنها تدعم القطاع الصناعي، لكن النتائج خلال الـ 17 عاماً الماضية تؤكد أنه ما من حكومة قرنت أقوالها بالأفعال، فعيون وقلوب الحكومات السابقة كانت مع قطاعات الخدمات الريعية والاعتماد على الخارج لتأمين احتياجات سورية، أي من خلال الاستيراد. وفي وقت كان القطاع الصناعي يعاني من المنافسة غير المتكافئة، ومن التهريب، وقلة الدعم، وغياب الحماية، كان حيتان المال والتجار يحتكرون استيراد السلع والمواد، ويحكمون قبضتهم على الأسواق والأسعار، إلى أن تحولت ملايين الأسر السورية إلى العيش بالكفاف بعدما أصبح دخلها لا يؤمن الحد الأدنى من المعيشة اليومية.

ومع أن الحكومات السابقة كانت تعرف جيداً أن سياسة الاعتماد على الاستيراد والاقتصاد الريعي تُضعف الليرة وقدرتها الشرائية، وتُفقر ملايين العاملين بأجر، إلا أنها لم تُغيّر هذه السياسة إلا كلامياً، وبقيت أفعالها مسخّرة لخدمة التجار وحيتان المال على حساب القطاع الصناعي.. فلماذا؟

 

لهيب الأسعار يفضح الأقوال

من الصعب أن نجد إجابة شافيىة لإصرار الحكومات السابقة، منذ عام 2003، على نهج منع أي دعم فعلي للقطاعات الإنتاجية التي حررت سورية من العقوبات، على مدى 15 عاماً، وتحديداً في تسعينيات القرن الماضي. ولو استعرضنا تصريحات هذه الحكومات لاكتشفنا أنها، دائماً وأبداً، كانت تؤكد على دعم القطاع الصناعي، بشقيه العام والخاص، ولكن لو أجرينا جردة حساب لاكتشفنا أنها لم تترجم أقوالها إلى أفعال، بدليل أن الاعتماد الأساسي في تأمين السلع والاحتياجات يتم عن طريق الاستيراد، وليس عن طريق الإنتاج الوطني. ولقد فضح لهيب الأسعار، الذي ارتفع أكثر من 50 ضعفاً خلال الـ 17 عاماً الماضية، أقوال الحكومات السابقة التي بقيت حبراً على ورق، ما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية.

ومع أن سعر الصرف كان ينحدر باتجاه الهاوية بسرعة، من 47 ليرة إلى أكثر من 1500 ليرة، فإنه ما من حكومة راجعت سياساتها باتجاه الاعتماد على الذات، أي باتجاه دعم قطاعي الزراعة والصناعة، بل

وأغرقتنا بدوامة “الدولار”، وشغلتنا بإجراءات وهمية زعمت أنها ستؤدي إلى تحسين سعر صرف الليرة، وبالتالي انخفاض الأسعار.. وكان كل ذلك عبارة عن أوهام وترهات!

الهدف الذي شغلتنا به الحكومات السابقة تركّز على سعر الصرف، بدلاً من زيادة الإنتاج، وبالتالي ما دام تركيز الحكومات على الاستيراد والخدمات، فما من آلية للجم ارتفاع الأسعار، وتدهور سعر الصرف.. أليس هذا ما يحصل منذ العام 2011 وحتى الآن؟!

حتى على صعيد التحليل النظري، ما من أكاديمي توقع ان تنخفض الأسعار، وقد رأت الخبيرة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب أن السبب هيكلي متجذر بهيكلة الاقتصاد: “.. فإنتاجنا المحلي لم يستطع أن يزداد رغم الاستقرار النسبي في العديد من المناطق السورية، إضافة إلى غياب دور القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص، في ظل عدم تحفيز الإنتاج والعمال، ناهيك عن أن القطاع العام الصناعي ما زال على الهامش، وغير قادر على أن يلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً، سواء بحجم الانتاج أو جودته، فالمطلوب إعادة إحياء هذا القطاع وتفعيله فهو حزام الأمان والضامن لاستقرار الاقتصاد”.

 

احتكارات سرية وعلنية

وبفعل غياب أي دعم للصناعة، ولعدم وضع الحكومات السابقة أي خطط وبرامج من ِشأنها دعم الصناعة الوطنية وحمايتها، فإن الكلمة الفصل في الفعل الاقتصادي كانت ولا تزال بيد التجار ورجال الأعمال وحيتان المال؛ وحيثما تكون هناك حجومات استيراد كبيرة لتأمين السلع وبخاصة الأساسية، من الطبيعي ظهور احتكارات سرية، وأخرى علنية، ينتج عنها تحكم قلة مدعومة من متنفذي الأسواق والأسعار. وقد اشتكى الكثير من التجار من وجود محتكرين يمنعونهم من الاستيراد والمنافسة، بل إن جهات حكومية أشارت إلى وجود “مافيات” تتاجر بالمواد المدعومة، وتغرق الأسواق بالمهربات، لا بل وتباهت الحكومات السابقة بقدرة المحتكرين على تأمين جميع السلع في الأسواق، وكان بعض الوزراء يكرر عبارة: “ما من سلعة مفقودة في الأسواق رغم الحرب!”.

ولا نعرف إن كان مُطلق هذه التصريحات كان يعي أن الاعتماد على الاستيراد، بدلاً من الإنتاج المحلي، سيوصل الاقتصاد الوطني إلى ما وصل إليه اليوم، فطالما يعتمد الاقتصاد على الخارج سيبقى سعر صرف الليرة ينخفض أكثر فأكثر. وإذا كانت حكومات ما بعد عام 2011 تبرر الاعتماد على الاستيراد بالحرب على سورية، فمن منعها من استثمار الإمكانات المتاحة – مهما كانت متواضعة – في قطاعي الزراعة والصناعة، لتشكل اللبنة الأساسية لانطلاقة إنتاجية كبيرة، بدءاً من عام 2017 مثلاً؟ وهل كان من الضروري أن نبدأ الاعتماد على الذات بعد زيادة العقوبات.. إلا إذا كانت بعض الحكومات السابقة كان ساذجاً لدرجة راهنت على أن العقوبات إلى زوال، لا إلى ازدياد؟

 

هل سيفك رئيس الحكومة لغز عدم دعم الصناعة؟

وبعد كلمتي الرئيس بشار الأسد أمام مجلسي الشعب والوزراء الجديدين، نسأل: هل سيتغير حال الصناعة في القادم من الأيام، فتصدر قرارات وتشريعات تزيد الإنتاج؟

وسبق لرئيس الحكومة الجديد، المهندس حسين عرنوس، أن اجتمع مع الصناعيين عندما كان رئيساً مكلفاً، مطلع آب الماضي، واستمع إلى مطالب الصناعيين التي قدموها للحكومة السابقة خمس مرات فقط، عام 2020، دون أي تجاوب!

وقال رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية معلقاً على اجتماع رئيس الحكومة – المكلف حينها – مع الصناعيين، في الأل من تموز الفائت: “نأمل من هذا الاجتماع أن يتمكن رئيس الحكومة من فكّ لغز عدم تنفيذ طلباتنا المحقّة، والتي تسعف الإنتاج، وتنقذ المنتجين والمصدرين في هذه الظروف الصعبة.. قدمنا في هذا الاجتماع ما قدمناه قرابة الخمس مرات هذا العام فقط في اجتماعات مماثلة، ترأسها رئيس الحكومة السابق”!.

من السابق لآوانه توقع ما سيحدث في الأمدين المنظور والبعيد، لكن المؤكد أن الاقتصاد السوري لن يشهد تحسناً إلا بزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتوفير سلع منتجة محلية بأسعار متاحة لملايين الأسر السورية، أي بالانحياز التام للمنتجين.. لا للمستوردين الكبار!

 

قطاع الدواجن.. مثال سيىء جداً!

وبما أن مادتي البيض والفروج خرجتا من مائدة ملايين الأسر، فهذا يعني أننا أمام مثال سيىء جداً لسياسات الحكومات السابقة التي لم تفعل شيئاً لإنقاذ قطاع صناعة الدواجن، مثلما تجاهلت الارتفاع الجنوني لأسعار اللحوم الحمراء.. تصوروا أن الحكومات السابقة لم تتخذ أي إحراء ملموس لتوفير الأمن الغذائي، وعلى رأسه منتجات الدواجن.. حتى البطاطا، الأكلة الشعبية، كانت الحكومات السابقة تؤمنها في الكثير من المواسم عن طريق الاستيراد.. كان كل شيء يُنذر بقدوم الكارثة، فارتفاع أسعار البيض والفروج لم يكن مفاجئاً، واتحذ منحى تصاعدياً، بدأ بطيئاً، ثم تسارع مع تجاهل الحكومة السابقة للكارثة القادمة.. والمشكلة واضحة: ارتفاع أسعار الأعلاف بشكل جنوني! والحل كان واضحا جداً أمام الحكومة السابقة: دعم مستلزمات قطاع الدواجن كي يستمر الإنتاج ويبقى البيض والفروج بالمتناول.

حتى يوم إعفاء رئيسها، لم تتخذ الحكومة السابقة أي إجراء فعال لإنقاذ قطاع الدواجن. ولم يكن السبب مجهولاً أبداً؛ فبعدما توقف آلاف المربين عن العمل، وأغلقوا مداجنهم، وأصبحت حتى “نترات الفروج” عصية على ملايين السوريين، اقترح البعض استيراد الفروج المجمد، أي عدنا إلى خيار الحكومات السابقة الوحيد: الاستيراد، ولا بديل عن الاستيراد!

 

“لابد من قرارات جريئة”

هذه الجملة – الملفتة جداً – أطلقها رئيس الحكومة السابق، في 26 كانون الأول 2020، أي منذ أكثر من سبعة أشهر خلال اجتماع عقده مع الصناعيين، وبدا حينها متحمساً، بل وجاداً، بإعلانه “أن الصناعيين شركاء حقيقيون بكل الإجراءات، والصناعة هي النواة الأهم للاقتصاد، وأن أي منشأة كانت قبل الحرب يجب أن تعود إلى العمل، وهذا يتطلب خطوات من الفريق الحكومي لإعادة إقلاع الصناعيين بكل معاملهم، وهي مسؤولية الجميع”.

ولو استمعنا لهذا الكلام للمرة الأولى لتوقعنا انطلاقة قريبة واعدة للصناعة، لكنه كان مكرراً لتصريحات سابقة، وخاصة عندما زارت الحكومة مدينة حلب منذ ثلاثة أعوام، حيث تحدث المهندس خميس للمرة الأولى عن ضرورة “إيجاد آلية جديدة لإصدار قرارات جريئة، لأننا لم نعد نريد نظريات، ولا تبادل الاتهامات، فالسياسة اليوم هي الاعتماد على الذات”. وكرر الصناعيون من جانبهم: “لم يبق لنا سوى الإنتاج – بكل قطاعاته الصناعية والزراعية – باعتباره المورد الوحيد للقطع.. كفانا تكراراً لهذه اللقاءات التي تتكرر منذ عشرات السنين! كفانا العمل بسياسة الفعل ورد الفعل.. نحن بحاجة إلى نسف البيئة التشريعية القديمة وخلق بيئة جديدة”. وأكد الصناعيون أن “الشعار الأهم هو الإنتاج ثم الإنتاج ثم الإنتاج، وصولاً إلى التصدير لتحسين سعر الصرف الذي يؤدي إلى ارتفاع القوة الشرائية وتحسين الوضع المعيشي، إضافة الى تأمين حوامل الطاقة من كهرباء ومازوت وفيول وحتى الغاز، والأهم السياسيات والقرارات الحكومية التي تقف حجر عثرة أمام مسيرة الصناعة الوطنية”.

 

بماذا ينشغل الفريق الاقتصادي؟

لعل السؤال المهم: من المسؤول عن سياسات دعم التصنيع المحلي لزيادة الإنتاج وتخفيض المستوردات؟

فقد تصدر القرارات عن مجلس الوزراء أو الحكومة، ولكن من يوصي بها، أو يوافق عليها أولاً، هو اللجنة الاقتصادية، أو الفريق الاقتصادي الذي كان يترأسه وزير المالية السابق. وبما أن الأمر يتعلق بفريق اقتصادي، فهذا يعني – أو يجب ن يعني – أن يكون هناك برامج ومشاريع، وحتى خططاً لحماية الصناعة الوطنية، وتشجيع أي صناعة جديدة، أوتطوير الصناعات القائمة بما يتيح خفض المستوردات.. فهل هذا ما يحصل فعلاً؟

إن الموافقة على قرارات تلحق الضرر بالصناعة، وخاصة بالنسيجية، وتكاد تقضي على صناعة الدواجن، وتقلص الاعتمادات المرصدة للقطاع العام الصناعي، تؤكد أن الفريق الاقتصادي لجميع الحكومات، منذ عام 2003، كان شغله الشاغل دعم الاقتصاد الريعي والاعتماد على المستوردات لتأمين احتياجاتنا من السلع والمواد، لا تصنيع معظمها محلياً. وموافقة اللجنة الاقتصادية، نهاية حزيران الماضي، على استيراد 20 مليون عبوة زيت دوار شمس، لمصلحة المؤسسة السورية للتجارة، لطرحها عبر صالاتها ومنافذ بيعها مثال على الاعتماد على الاستيراد. ود سبقتها قرارات لاستيراد مواد أخرى، منها البطاطا.. نعم البطاطا!!

نعرف أن لدى القطاع العام معامل لتصنيع زيت القطن، ولا نعرف لماذا لم توافق اللجان الاقتصادية في الحكومات السابقة على إقامة خطوط إنتاجية لتصنيع الزيوت من عباد الشمس والذرة الصفراء، أو تشجيع الفلاحين على زراعة مستلزمات الزيوت النباتية لتشجيع القطاع الخاص على زيادة خطوطه الإنتاجية لعصرها بدلاً من استيرادها!! بل لماذا لم تخطط أي لجنة اقتصادية لتصدير الزيوت النباتية بدلاً من استيرادها من بلدان غير زراعية أساساً؟

 

إعادة هيكلة

بالمختصر المفيد: آن الآوان للحكومة الحالية، ولأي حكومة مستقبلية، أن تعيد هيكلة الاقتصاد السوري استناداً إلى رؤية متكاملة للاعتماد على الذات، محورها زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي من خلال خطط خمسية، لا استناداً إلى ردات فعل ارتجالية، وإذا لم تفعلها الحكومات القادمة فلن تقدر سورية على مواجهة الحصار الاقتصادي، وتحويله إلى فرصة لصالح سورية والسوريين.

والسؤال سيقى مطروحاً في الأمد المنظور: من يقنع من.. بأن الصناعة – مثل الزراعة – ضمانة للمجتمع السوري تحميه من أي حصار اقتصادي؟