دراساتصحيفة البعث

مصادر الطاقة في المتوسط.. الصراع بين تركيا واليونان(2)

محمد نادر العمري

من أهم ما يميز الصراع في شرق المتوسط تداخل وتعدد أبعاد وأطراف الصراع ما بين أطراف مباشرة وأطراف أخرى دولية غير مباشرة، ولكن لديها تأثير ومصالح كبيرة، وقد بدأت وتيرة الصراع بالتسارع بعد تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأمريكية عام 2010 بوجود 3455 مليار متر مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط، وتعد منطقة شرق المتوسط من أكثر المناطق الجيواستراتيجية، حيث تشكّل تهديداً لمستقبل الأمن والسلم الدوليين، كما أن هذه الأهمية الجيوسياسية قد تتسبب في زيادة معدلات الصراع الإقليمي، وزيادة مستوى الخلافات بين دول هذه المنطقة، ودفعت دول المنطقة إلى تقنين أوضاعها بصورة قانونية فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، ومن ناحية أخرى سعى النظام التركي للتنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية الخاصة في كل من قبرص واليونان دون اعتبار للقوانين الدولية المنظمة لهذه العمليات، ولجأ إلى شرعنة ذلك من خلال توقيع اتفاقيتين لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، ومن ثم تصاعدت التوترات بالدول المعنية وما يتعلق بها من خلافات حول الحدود البحرية لكل دولة.

الصراع بين تركيا واليونان

شهدت العلاقات التركية اليونانية فترات كثيرة من المد والجذر، وذلك منذ أن استقلت اليونان عن الامبراطورية العثمانية عام 1832، فالمشاكل بين الدولتين قديمة وممتدة منذ فترة كبيرة، وشهدت العلاقات بينهما العديد من الحروب مثل: الحرب التركية اليونانية عام 1897، حرب البلقان الأولى عام 1912، الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، الحرب اليونانية التركية (1919-1922)، لهذا فالعلاقات بين البلدين لا تتسم بالثبات، وهي متقلبة آخذة بالمد والجزر، ولم تكن يوماً على وتيرة واحدة، فكما شهدت العلاقات بين تركيا واليونان فترات توتر وحرب، شهدت في المقابل فترات من التهدئة والسلام، والعلاقات الحالية بين الجانبين تشهد العديد من الملفات مثل: “ملف جزيرة قبرص، وملف ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا”، والصراع بين تركيا واليونان في شرق المتوسط لا يمكن عرضه وفهمه بمعزل عن الملفين السابقين، ولابد من عرض موجز للملفين السابقين لأنهما يشكّلان أحد أهم ملفات الصراعات على المستوى الاستراتيجي في الشرق الأوسط :

أ/ ملف جزيرة قبرص

تعد جزيرة قبرص ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط بعد جزيرتي سردينيا وصقلية، وتتمتع بموقع استراتيجي هام بالنسبة لطرفي الصراع، سواء كانت تركيا، أو اليونان، ويعد هذا الصراع عقبة في سبيل تحسن العلاقات بين الطرفين حالياً، والمشكلة في جزيرة قبرص ترجع بسبب حالة الصراع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين على أثر الاختلاف في وجهة نظر الطرفين في الحكم والتبعية، وشكل نظام الحكم والسلطة، وزادت حدة الصراع بسبب مناداة القبارصة اليونانيين بالانضمام لليونان، وهو ما تراه تركيا حصاراً للحدود البحرية التركية، ومهدداً لمصالحها وأمنها القومي، ما دفع تركيا للتدخل في قبرص واحتلال الثلث الشمالي منها عام 1974، والصدام مع اليونان، والإعلان عن ذلك الجزء دولة مستقلة، وهي شمال قبرص (قبرص التركية)، وهي دولة لا تحظى بالاعتراف الدولي سوى من تركيا فقط، والجزء الآخر من الجزيرة الذي يمثّل ثلثي الجزيرة هو دولة قبرص، وهي دولة تحظى بالاعتراف الدولي، فالصراع على تلك الجزيرة بين اليونان وتركيا هو إحدى أهم نقاط الخلاف بين تركيا واليونان، وهو ما يثير أيضاً صراعاً حول حقوق التنقيب عن الثروات المكتشفة في شرق البحر المتوسط .

ب/ ملف ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان

يمثّل هذا الملف إحدى النقاط الهامة في فهم الصراع بين تركيا واليونان في شرق المتوسط، ويثير الصراع حول حقوق التنقيب عن الثروات في المناطق البحرية المختلفة مثل المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة، ففي ذلك الملف يتنافس الجانبان على ترسيم الحدود البحرية، سواء تحديد المياه الإقليمية، أو الجرف القاري، وعن الجرف القاري تقول اليونان إن الجزر الواقعة بالقرب من تركيا هي جزء من السيادة اليونانية، ما يعني الجرف القاري لليونان عند أقصى الجزر اليونانية الواقعة في بحر ايجة، وهو ما ترفضه تركيا، حيث يستند الموقف التركي إلى ميثاق قانون البحار الخاص بمنظمة الأمم المتحدة 1982 الذي لا يسمح لليونان أن تجمع الجزر التي يمكنها الاستفادة من نظام “الأرخبيل” مع جرفها القطري، بمعنى آخر تحديد الجرف القاري من يابسة الدولة وليس من جزرها، حيث تزعم تركيا أنه من غير المعقول أن تحصل بعض الجزر اليونانية على مساحة جرف قاري ومنطقة اقتصادية تعادل أضعاف مساحتها، وتعتمد في مطالبها على توجهات القانون الدولي التي تحدد المناطق الاقتصادية بناء على المسافة من البر لا من الجزر، وذلك الملف يثير صراعاً حول حقوق التنقيب عن الثروات المكتشفة في شرق البحر المتوسط، ما يؤدي لتفاقم الصراع بين تركيا واليونان بشكل خاص، والصراع في شرق البحر المتوسط بشكل عام.

الصراع التركي اليوناني يحركه دافع آخر وهو نقص مصادر الطاقة في تركيا واليونان، ورغبة كل منهما في السيطرة على الثروات المكتشفة في شرق البحر المتوسط للاستفادة منها، وتأمين مصادر الطاقة في المستقبل، لذلك فإن الصراع بين اليونان وتركيا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بملف جزيرة قبرص، وذلك عندما قامت تركيا بأعمال التنقيب بالقرب من ساحل قبرص الشمالية (التركية)، وهو ما أثار قبرص واليونان، بالإضافة إلى مطالب تركيا بحقوق استغلال ضمن منطقة تدعي أنها جرف قاري، في المقابل، تدعي اليونان أن كل جزرها المأهولة بالسكان محاطة بمنطقة اقتصادية حصرية على مسافة 200 ميل وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي لم توقع عليها تركيا، ويؤدي التطبيق الصارم لهذه القواعد إلى “حصر” حقوق تركيا في استغلال هذه الموارد في ركن صغير حول خليج أنطاليا.

تركيا ترى أن منطقتها الاقتصادية وحدودها البحرية صغيرة، وذلك بسبب جزيرة كاستيلوريزو التي تقع تحت السيادة اليونانية رغم أنها تبعد مسافة قريبة من السواحل التركية تقدر بميل واحد تقريباً، فوضعية جزيرة كاستيلوريزو تثير النزاع حول ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان، وتثير صراعاً حول حقوق التنقيب عن الثروات المكتشفة في شرق البحر المتوسط مثل الغاز الطبيعي، حيث إنه طبقاً لاتفاقية قانون البحار 1982 تدخل جزيرة كاستيلوريزو التي تقع أمام السواحل التركية مباشرة ضمن حسابات المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان. وعليه قامت تركيا بعقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية عام 2019، وقامت اليونان بتوقيع اتفاقية مماثلة مع مصر في العام نفسه لتقنين أوضاعها، وتقنين حدودها البحرية وفقاً لقواعد القانون الدولي وحسن الجوار مع مصر، حيث قامت مصر واليونان بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية لتحددا منطقتهما الاقتصادية الخالصة بشكل قانوني حتى تتمكنا من التنقيب عن الثروات المكتشفة في شرق البحر المتوسط، والاستفادة منها، وإغلاق الطريق أمام المطامع التركية.

أما الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق فمفاده يقوم على “أكبر الجزر اليونانية جزيرة كريت، ليس لديها جرف قاري، ومثلها أيضاً جزيرة كاستيلوريزو الأصغر منها بكثير، والواقعة قبالة ساحل ليسيان التركي”، وهذا موقف شائك قانونياً، حيث إنه يهدد مشروعاً هاماً بالنسبة لليونان وهو خط أنابيب (ميد ايست)، فالتقسيم الذي قامت به تركيا في ذلك الاتفاق يضع العديد من الجزر التي هي تحت السيادة اليونانية وينقلها للسيادة التركية، ما يؤثر على ذلك المشروع الهام بالنسبة لليونان، وهو ما ترفضه اليونان بشكل قاطع، وهذا ما يعزز الصراع ويجعل الخلاف يأخذ منحنى تصاعدياً بين الطرفين التركي واليوناني، وذلك بسبب سعي الطرف التركي لتغيير وتعديل الاتفاقيات، وسعي الطرف اليوناني للإبقاء على الوضع القائم، فكل طرف يتحرك في سبيل تحقيق مصلحته المتمثّلة بالحصول على حدود بحرية تجعل له نصيباً كبيراً من الثروات الهائلة المكتشفة في شرق البحر المتوسط، والحصول على الحدود البحرية التي تساعده على التنقيب بشكل أكبر عن تلك الثروات للاستفادة منها، وهو ما يؤدي بدوره لتزايد حدة الصراع بين تركيا واليونان بشكل خاص، والصراع في شرق المتوسط بشكل عام.