مجلة البعث الأسبوعية

التعليم في دير الزور المحررة.. الإرهاب لم يرحم المدارس والعملية التربوية تنتصر على الحرب الحاقدة

“البعث الأسبوعية” ــ وائل حميدي

لعل أكثر العبارات وجعاً تلك التي قالها مدير تربية دير الزور نشأة جابر العلي بأن ما تمّت إشادته من أبنية تعليمية في أربعين عاماً لا يمكن إعادة إعماره خلال أيام، وذلك في إشارة منه إلى أن الصروح العلمية والتربوية التي تم استهدافها من قِبل الإرهاب وخرجت بغالبيتها عن الخدمة، لتكون العملية التربوية في المحافظة بمواجهة عمل شاق يبدأ ولا ينتهي سعياً لإعادة تفعيل العمل التربوي والتعليمي.

ويبدو جلياً أن المهمة صعبة إذا ما عرفنا بأن عدد المدارس في المحافظة وصل إلى ١٦٧٢ مدرسة عام ٢٠١١، وتناقص ليصبح اليوم ٣٤٤ مدرسة فقط، وهذا لا يعني سلامة الرقم الأخير، بل هو الرقم الذي استطاعت الحكومة السورية، عبر وزارة التربية، أن تقوم بترميمه بعد تحرير المحافظة لتفتح أبوابها مستقبلةً طلابها الذين حرمهم الإرهاب منها.

مدير تربية دير الزور أشار لـ “البعث الأسبوعية” بأن التنسيق مستمر وبخطىً حثيثة مع مديرية الخدمات الفنية لوضع الدراسات والخطط اللازمة في إطار إعادة تأهيل كافة المدارس إلى سابق عهدها، وبأن الصيانة وإعادة الإعمار لم تتوقفا، بما في ذلك ما تساهم به المنظمات الدولية في أعمال الترميم، حيث تم في الفترة الماضية ترميم ٧٠ مدرسة موزعة على المجمّعات الإدارية، وهذا ما أتاح الفرصة للطلبة متابعة تعليمهم.

وبلغة الأرقام، فإن عدد المدارس الواقعة تحت سيطرة الحكومة هو ٨٥٢ مدرسة من أصل ١٦٧٢، وهذا لا يعني أن تلك المدارس بحالة جيدة لأن غالبيتها العظمى كانت، منذ وقت ليس بالبعيد، تحت سيطرة الإرهاب الذي استهدفها بالكامل، وبعد التحرير تم إعادة تأهيل قسم منها، ليكون عدد المدارس الحالية ٣٤٤ مدرسة، أي أن ما نسبته أكثر من ٤٠ بالمائة من المدارس بدأت تتعافى وفتحت أبوابها من جديد.

ويُضيف مدير التربية بأن عملية إعادة تأهيل كافة المدارس تحتاج إلى وقت طويل مع ما يستدعيه الأمر من إعداد دراسات تكون الأساس في بدء أعمال التأهيل، غير أننا أدرجنا كافة المدارس الخارجة عن الخدمة ضمن خطط لإعادة تفعيلها من جديد، وقد اطلعت المديرية المنظمات المانحة على واقع تلك المدارس، حيث تم التعاقد على مجموعة أولى من المدارس موزعة ضمن التجمّعات الإدارية وفق التواجد السكاني، كما تم إدراج عدد إضافي من المدارس في الخطة الاستثمارية لهذا العام، 2021، والتي تم رصدها بالكامل لصالح إعادة التأهيل بالتنسيق مع مديرية الخدمات وضمن إمكانات الخطة والميزانية ومدى قدرتها على إعادة ما أمكن من المدارس المدمرة إلى سابق عهدها، علماً أن عام ٢٠٢٠ شهد تأهيل ٢٩ مدرسة من المدارس الخارجة عن الخدمة عن طريق المنظمات المانحة التي أبدت تعاونها في ذلك، فيما أنجزت المديرية إعادة تأهيل ٩٩ مدرسة من ميزانيتها.

 

كادر وأثاث

ويبقى السؤال: هل المديرية قادرة على تأمين الكوادر والأثاث اللازم للمدارس التي أُدرجت ضمن الخطة لإعادة تأهيلها تِباعاً؟ وفي حال افتتاح مدارس جديدة، هل المديرية جاهزة لتزويد تلك المدارس بما يلزم؟

يبدو من خلال الإجابة بأن ما أعلنت عنه المديرية مؤخراً من مسابقات لتعيين كوادر جديدة سيساهم في خدمة المدارس الحالية، وربما المستقبلية إلى حد ما، حيث تم الإعلان مؤخراً عن مسابقتين نتج عنهما تعيين ٩٥٨ معلماً وكيلاً، إضافة لـ ١٢٥٥ خريجاً جامعياً؛ ومع ذلك، فإن الواقع يُشير لحاجة المديرية إلى تعيين ٢٥٠٠ معلماً وكيلاً بداية كل عام دراسي، وهذه الحاجة يتم رفعها إلى الوزارة قبيل كل عام، وفق المعطيات التعليمية الخاصة بالتجمّعات السكانية وأعداد الطلبة في التجمّعات الإدارية، وبالتالي تعاني المديرية من نقص اختصاص “معلم صف”، ويتم تدارك هذا الخلل من خلال تعيين الوكلاء العَرَضيين عبر مسابقات محلية تقوم المديرية فيها باختيار الأكفّاء من المتقدمين لها اعتماداً على مؤهلاتهم العلمية، وعدد أيام خدمتهم في مدارس المحافظة، وتكون الأولوية في التعيين للجامعيين ثم المعاهد حسب الحاجة وحسب أعداد المتقدمين للتوكيل.

وإذا كانت المديرية قد عيّنت بموجب المسابقتين الأخيرتين ما مجموعه أكثر من ٢٢٠٠ متقدماً، فإن المديرية ستكون بحاجة لعدد إضافي مطلع العام القادم رغم أن المؤشرات الحالية لا توحي باحتمالية إجراء مسابقة أخرى لتعيين المزيد، وبالتالي ستلجأ المديرية إلى المعلمين الوكلاء.

وعلى مستوى الأثاث وتأمينه، تؤكد المديرية أن بعض المنظمات قام بتأمين عدد لا بأس به من المقاعد الصفّية والمدافئ والمراوح ومستلزمات التعليم، أما المدارس التي تم تأهيلها اعتماداً على الخطة الاستثمارية فإن المديرية تسعى لتأمين المقاعد الصفّية اعتماداً على الثانوية المهنية في تصنيع المقاعد، رغم ارتباط مسألة تصنيعها بوفرة الخشب وتأمينه، وما تم تصنيعه لغاية اليوم لم يتجاوز ٧٠٠ مقعد، بالتزامن مع ما تم تأمينه من قبل المنظمات، والتي وصل عددها إلى ٢٨٠٠ مقعداً، وأمام ما تم تصنيعه وما تم الحصول عليه من المنظمات تكون الحاجة للمزيد لا تزال قائمة إذا ما علمنا أن الحاجة الفعلية هي ١٢٠٠٠ مقعداً.

 

٣٦ ألف طالب

ولأن الدولة حريصة على استمرار العملية التعليمية لأبنائها الطلبة، ومع علمها بأن أعداداً كبيرة منهم لم تتمكن من استكمال تعليمها الأساسي بعدما خرجت مدارسها عن الخدمة، قامت وزارة التربية بإدراج ما أسمته “الخطة التعليمية.. الفئة ب”، وهي خطوة خاصة بالطالب الذي تسرب عن الدوام مدة عامين أو أكثر، بحيث يتم تطبيق مجموعة من البرامج التعليمية المكثفة بالتنسيق مع منظمة اليونيسيف تتضمّن أربع مراحل احتوت على الصفوف الثمانية الأولى، ويكون لدائرة التعليم الإلزامي في المديرية دور المشرف والمتابع لتعويض الفاقد التعليمي لمن لم يتمكّن من استكمال دراسته في المراحل المذكورة. وبالأرقام، فقد بلغ عدد الطلبة المستفيدين من البرنامج ٣٦ ألف طالب، وهو الرقم المسجل نهاية عام ٢٠١٧، حين تم تحرير المحافظة؛ وبالطبع، بدأ هذا العدد بالتناقص بعدما استكملت غالبية المستفيدين من البرنامج والتحقوا بالمدارس النظامية، واليوم يوجد ٧٠٠٠ طالب فقط ما زالوا يتابعون تعليمهم ضمن البرنامج المذكور ليلتحقوا بعد إتمامه بزملائهم في المدارس الحكومية.

 

مدارس بلا كورونا

تؤكد التقارير الصادرة عن تربية دير الزور عدم تسجيل أي إصابة بجائحة كورونا في مدارس المحافظة رغم حرص المديرية على إجراء مسوحات عامة بين الطلبة، وإرسال مسوحات الحالات المشتبه بها إلى الوزارة لتحرّي حقيقة الإصابة من عدمها. ومع ذلك، لم يتم إثبات أي حالة قياساً على المسوحات التي يخضع لها الطلبة المشتبه بوضعهم الصحي، وفي هذا الإطار طبّقت المديرية البروتوكول الوزاري، وقامت بتعيين مشرف صحي في كل مدرسة بعد تأهيلهم لذلك، عبر دورات مركزية، بالتعاون مع منظمة اليونيسيف، كما تم تزويد المدارس بالمرشّات والمعقّمات ومواد التنظيف والماسحات الحرارية لإجراء كشوفات دورية على الطلبة والمدرسين.

 

مازوت لا يُدَفّئ!

ألقت مشكلة تأمين مادة المازوت بظلالها السيئة على مدارس المحافظة الذين أمضى طلابها فصل البرد بلا تدفئة بالمعنى الكامل، رغم تعاقد مديرية تربية دير الزور مع فرع المحروقات “سادكوب” لتأمين الكمية المطلوبة من حاجة المديرية ومدارسها، غير أن ما تم تأمينه لا يتجاوز ٥٠ بالمائة من الحاجة الفعلية رغم توجيهات محافظ دير الزور المتكررة إلى فرع المحروقات لتزويد المديرية بما أمكن من الطلب على المادة ووفق ما هو متاح.

ويبدو من خلال الأرقام أن الحاجة الفعلية للمديرية من مادة المازوت للمدارس لا تتعدى ٣٥٠ ألف لتر ليكون نصيب كل مدرسة منها ألف لتر؛ ومع ذلك لم يتجاوز نصيب كل مدرسة سوى ٥٠٠ لتر في أفضل الحالات، وهذه الكمية لا تكفي أبداً لأنها لا تفي بنصف حاجة المدرسة، لذا كان لابد من التأقلم مع ما هو متاح.

 

امتحانات على الهيكل

للتذكير فقط، اضطرت مديرية تربية دير الزور، عام ٢٠١٣، إلى نقل مقرها من داخل المدينة إلى المناطق الآمنة، واستقرت في مدرسة لا تزال تباشر أعمالها منها لغاية اليوم بعدما تعرض مقرها الأساسي للتخريب والسرقة بالكامل، وحينها اضطرت المديرية لنقل دائرة الامتحان إلى المدرسة ذاتها “الحالية” ما يعني ضيق المكان وقلة الإمكانات.

ومع إصرار الحكومة والأهالي على استمرار التعليم، لم تجد المديرية وقتها حلاً لإجراء امتحاناتها سوى باستخدام صالة رياضية قائمة على الهيكل فقط (بلا أبواب ولا نوافذ ولا أرضية جاهزة وبسقف مستعار)، ليكون للقيادة والحكومة والأهالي صوت أقوى من صوت الإرهاب الذي عمل كل شيء لإيقاف التعليم في المحافظة.

ومع نهاية عام ٢٠١٧، وهو عام تحرير دير الزور، قامت المديرية بإعادة دائرة الامتحانات إلى مقرها الرئيس بعدما عملت على إعادة تأهيله بسرعة قصوى، وربما يشهد العام المقبل إعادة تأهيل مقر المديرية الأصلي؛ وإذا كانت المقار الامتحانية منحصرة ضمن المناطق الآمنة، فإن تحرير المحافظة سمح بتجهيز مراكز امتحانية في عموم المجمّعات الإدارية، ولغاية العام الفائت كان طلبة الشهادة الثانوية يقدمون امتحاناتهم في المراكز التي تم تحديدها في المدينة، بينما أتيح المجال لطلبة شهادة التعليم الأساسي لتقديم امتحاناتهم في بعض المراكز التي تم تحديدها في الريف. وبحسب ما أكده لنا مدير تربية دير الزور فإن الامتحانات المقبلة ستشهد افتتاح مراكز متعددة في الريف لطلبة التعليم الأساسي، كما ستشهد افتتاح مركز امتحاني لطلبة الشهادة الثانوية النظاميين في مدينة الميادين وذلك للتخفيف من أعباء ومشقة السفر إلى المدينة قياساً على ما كان سابقاً، ولا تزال عمليات تسجيل الطلبة للتقدم للامتحانات مستمرة رغم التوقع بأن تكون الأرقام كبيرة هذا العام نظراً لما شهدته المحافظة من عودة كبيرة للأهالي لديارهم.

 

وجَع نقص الآليات

خمس آليات فقط بقي لدى مديرية تربية دير الزور من أصل أسطولها الذي كان يبلغ، عام ٢٠١١، أكثر من سبعين آلية، لتكون نسبة فقدان الآليات حوالي ٩٠ بالمائة، ما وَضَع المديرية أمام إرباك كبير يبدو واضحاً إذا ما علمنا بأن الحالة الفنية للآليات الخمس المتبقية ليست على ما يرام، وهذه الآليات تعتمد عليها مديرية التربية بكافة الأعمال المطلوبة منها داخل المدينة، بينما لم يبق لديها سوى آليتين تعملان على المازوت، ورغم وضعهما الفني السيء يتم الاعتماد عليهما في كافة الجولات شبه الدورية التي تنفذها المديرية، إضافة لجولات الصحة المدرسية وحملات التلقيح وإيصال مستلزمات العملية التعليمية والقرطاسية المطلوبة باتجاه التجمّعات الإدارية، وعلى خط نقل يبلغ طوله ٢٤٠ كم من حدود الرقة إلى البوكمال.

وإذا كانت المديرية وضعت وزارتها بما آل إليه أسطولها من الآليات، غير أن الوضع ما زال على ما هو عليه، على أمل تزويد المديرية بما أمكن ولو ضمن الحدود الدنيا لتخفيف العبء عليها ضمن الإمكانات المتاحة للوزارة، بالتنسيق مع رئاسة الوزراء.