مجلة البعث الأسبوعية

“الشمسيات” و”القمريات”.. موشوريات الليل والنهار!!

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

هندسة الضوء فن قديم في الحضارة السورية، لها أسراره في التعامل مع الألوان بشفافية موشورية تحول بياض النهار إلى قوس قزح تحت أشعة الشمس، وتوظف هذه الجمالية في الإنارة الليلية اعتماداً على أشعة القمر والنجوم، ولذلك تسمّى أحياناً “الشمسيات” و”القمريات”.

 

أركيولوجيا الضوء

وتمتد ذاكرة هذا الفن إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد؛ بدءاً من الخرز والتعاويذ والأواني والأدوات، مروراً بالقصور والبيوت والمعابد، وما نلاحظه في النوافذ السقفية والجانبية في فن العمارة التراثية الشرقية العريقة، لا سيما أماكن العبادة، إلاّ أن هناك من البحّاثة من قال: “أول من صنع هذا الزجاج الفني هم فنانو الشرق الأدنى القديم”، ومنهم من قال: “أول من ابتكره فقراء أوروبا في القرون الوسطى الذين كانوا يجمعون الزجاج المكّسر من نفايات الأغنياء ثم يلصقونه ويرصونه ويشكلون منه نوافذ لأكواخهم البسيطة، لعل أحلامهم العميقة تصبح ملونة، ولم يدركوا أن الأغنياء ستعجبهم الفكرة ويزينون بها قصورهم وعماراتهم، وستتطور على مدى الأجيال لتصبح فناً مميزاً”.

 

تحف ضمن نصوص

ذكرت عدة كتب صناعة هذا الفن الزجاجي وحضوره التأريخي التزييني وأهم فنانيه وصنّاعه وحرفييه المهرة، ومن هذه الكتب “الدرة المكنونة” لجابر بن حيان في القرن الثامن الميلادي، وكتاب “جلستان في باب فضل القناعة” للشاعر الإيراني سعدي، الذي ذكر فيه حكاية مشهدية واقعية تأريخية عن تقدم حلب في صناعة الزجاج وكيف كانت التحف الزجاجية الحلبية بزخارفها ونقوشها وفنونها تعتبر من الهدايا الثمينة رغم ثقل حملها في ذاك الزمان.

 

فسيفساء الذاكرة

ولا بد أن تستوقفنا الذاكرة الأولى للفسيفساء واللوحات الأرضية والجدارية والأدوات الأثرية المكتشفة في سوريتنا الحبيبة، ومنها ما اكتشفه العلامة الفرنسي دي لوريه في الجامع الأموي، بدمشق، من عمل فني أشبه ما يكون بلوحة مشهدية طبيعية تعكس نهراً كأنه بردى وقنطرة فوق النهر، إضافة للأشجار والغابات والعمائر، ومنها رسم لملعب الخيل، وقصور ذات طابقين.

ولهذا الفن حضوره في مختلف مجالات الحياة المعاصرة، سواء في إكسسوارات الزينة النسائية، أو إكسسوارات المباني، كما نجد ما يدل عليه في بعض المقابر الأثرية في مختلف أنحاء العالم، ومنها مصر وروما وإيطاليا والعراق وإيران، فتراهُ يُنشد موسيقاهُ بين القبب المحدبة والمقعرة والمسطحة المنبسطة، وبين اللوحات الجدارية والنوافذ المطلة من السقف وعلى الغرف والمداخل والدرج، وربما يغني موشحاً أندلسياً من خلال لمعانه المصطهج بين الثريات والزهريات والأعمال الفنية الأخرى.

 

تشكيلية صوفية وفينيقية

ولقيمة هذا الفن الجمالي الزجاجي المعشق أشكال نفعية كونه يمنع الغبار والأتربة والحشرات وفوضى الرياح، ويعزل الصوت والحرارة والبرودة، ووسائل ترشيدية ينتظم من خلالها الضوء والظل، وله أبعاد روحية تمنح الإنسان حالة نفسية من الطمأنينة والتأمل والإيجابية التي ترتفع عن الجاذبية الأرضية لتدخل إلى جاذبية التصوف التي تجعلك تردّد: “مدد مدد مدد”.

ولهذه الأسرار والسرائر التي يتمتع بها فن الضوء المعشّق، نجده يتماوج في العديد من الآثار الحيوية منذ العهد الفينيقي، وصولاً إلى العصر الأموي، مثل قصر الحمراء الأموي أيام الأندلس، ومسجد قرطبة المزين بـ 365 ثريا وقنديل للزيوت ومشكاة، وهذا العدد يدل على عدد أيام السنة، وانعطافاً إلى الجامع الأموي في كل من دمشق وحلب، إضافة إلى توظيفه في المباني الثقافية والرسمية والمكاتب والمنازل، والبيوت مثل بيت غزالة وأمثاله في حي “الجديدة” الأثري.

 

تكوين يتحرك بين العناصر الكونية

وللحصول على الضوء المعشق تتفاعل عناصر الوجود: الماء، النار، الهواء، التراب، الشجر، المعدن، فيتداخل الزجاج الذي هو عبارة عن بلورات رملية مع عدة عوامل، منها الألوان والجص والنحاس والخشب والقصدير والرصاص والكريستال والذهب، ثم ينتقل إلى مراحل من الضغط والحرارة ليتخذ أشكالاً مختلفة طبيعية وبيئية وإنسانية كالطيور والنباتات والزهور والأشجار والثمار، وأشكالاً فنية أخرى مثل الأشكال الهندسية المختلفة منها المثمن والمستطيل والمربع الذي يحتمل بين 4 أضلاع و18 ضلعاً، ومنها المستدير، وحينها، يسمى “القمرية”، إضافة إلى الزخارف والنقوش والرسوم والحروفية والتشكلات الفنية الأخرى.

 

سرديات رمزية ملونة

نذكر أن للزجاج المعشق وظيفة سردية أخرى تحكي القصص والأحداث وتروي عن الشخصيات الدينية والمدنية والخرافية ضمن مشاهد أقرب ما تكون إلى فن “الكوميكس” المعاصر، أو “الإنفوغرافيك” الإعلامي، مع ضرورة تركيز المصمم على عدة عناصر أهمها إيصال النص إلى المتلقين، ودقة اختيار اللون ودلالاته ومرموزاته، والتركيز على أهمية الصورة الحكائية المعشقة من خلال حجمها لأن الكبيرة تعني الأهم، بينما تحضر الشخصية البطلة في مركز المشهد، أو أعلاه، مع الترتيب الحكائي والسردي والروائي والقصصي للمشهد الحركي.

ومن جماليات أسرار هذا الضوء التي يكشفها للناظر فيما إذا حدق في انعكاس ظلال الأشعة على الأرض، تلك التموجات التشكيلية المتحركة بين الأفق وفضاء المكان.

 

شروق لذاكرتين معشقة وملونة

وتحضر هذه الجمالية الضوئية الفنية في دمشق أكثر من حلب التي تتمتع بتوظيف بسيط ومحدود لهذا الفن المعشق، الذي يذكّرنا بالآلهة عشتار وألوانها وحضورها في متاحفنا ومتاحف العالم، كما تنتشر الأشعة المعشقة من خلال الزجاج الملون لا المعشق في حلب سواء بمسمّاهُ “المينا”، أو مسمّاه العادي الزجاجي، ليدخل في العمارات المتنوعة، والأعمال الفنية المختلفة، ومنها التحفة الفنية الفريدة لوحة “المسيح الملك” في كنيسة مار الياس بساحة فرحات.

يذكر عن “الثعالبي” المتوفى في القرن الخامس الهجري: “إن المثل يضرب برقة الزجاج السوري ونقاوته”، لكن، ماذا عن جماليات الضوء بين الزجاج المعشق والملون الحلبيين؟ أجابنا المهندس المعماري محمد نبهان: المعشق قد نجده في بعض الجوامع والكنائس، مثل جامع البهرمية القريب من باب أنطاكية، بينما نجد قبب الحمامات عبارة عن زجاج ملون وليس زجاجاً معشقاً، تماماً، كما في بعض الأسواق المغلقة التي اعتمدت على الفتحات السقفية للتهوية، وأكد أن الزجاج المعشق في قاعة العرش بقلعة حلب من الإضافات المستحدثة منذ حوالي نصف قرن.