دراساتصحيفة البعث

ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الإسرائيلي

محمد نادر العمري

شكّل إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في تشرين الأول 2020 عن التوصل إلى “اتفاق إطار” بين لبنان والكيان الإسرائيلي، بوساطة أمريكية، يتمحور حول تحديد “آليات التفاوض” في ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة، مجرد بداية لسجال لا يقل عن الصراعات العسكرية، لاسيما مع مزاعم حكومة الاحتلال بوجود حقوق للكيان الصهيوني داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية.

حصلت عدة لقاءات غير مباشرة في رأس الناقورة، وسط محاولة الاستثمار “الإسرائيلي” لوجود إدارة أمريكية في البيت الأبيض لا تتوانى عن إغداق الهدايا المتتالية للكيان.

تعود جهود الوساطة الأساسية في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان إلى عام 2012، ويمكن إيجازها في أربع مراحل أساسية تولّت الولايات المتحدة مهمة القيام بها، وهي:

1- مرحلة فريدريك هوف: عيّنت الولايات المتحدة آنذاك المبعوث الخاص السابق إلى سورية ولبنان فريدريك هوف للقيام بمهام الوساطة بين الطرفين، والمساعدة على التوصل إلى حل للخلاف بينهما، اقترح هوف تقسيم المنطقة المتنازع عليها مؤقتاً بين الطرفين، وذلك بنسبة ثلثين لصالح لبنان، وثلث لصالح إسرائيل.

2- مرحلة أموس هوشتاين: في عام 2013، اقترح أموس هوشتاين مساعد وزير الطاقة الأمريكي رسم خط أزرق بحري مؤقت على غرار الخط الأزرق البري المرسوم بين لبنان والكيان، على أن تبقى المنطقة المتنازع عليها والملاصقة للخط من الجهتين خارج عمليات الاستكشاف والتنقيب، إلى أن يتم الاتفاق على ترسيم نهائي للحدود البحرية، ولكن لم ير هذا المقترح النور بعدما كان لبنان يريد أن تقوم الأمم المتحدة بدور لرسم الحدود.

3- مرحلة ديفيد ساترفيلد: بدأت هذه المرحلة من التفاوض على “آلية التفاوض” بشكل فعال في عام 2019، وبدا أنها مدفوعة بحاجة لبنان إلى التنقيب على النفط والغاز، لذلك تم طرح مقترح لبناني حول آلية التفاوض، حمله “ديفيد ساترفيلد” مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى إلى الكيان الصهيوني، كان لبنان يريد تلازم مساري ترسيم الحدود البحرية والبرية، وأن تجرى المفاوضات برعاية الأمم المتحدة ودعم الولايات المتحدة في مقر قيادة قوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) في الناقورة جنوب لبنان، وأن يكون التفاوض مفتوحاً زمنياً، أما كيان الاحتلال فكان يريد التفاوض على الترسيم البحري فقط، وأن يتم في الخارج (أوروبا أو أمريكا)، وأن يكون محدداً بفترة زمنية قصيرة (6 أشهر).

4- مرحلة ديفيد شنكر: تسلّم شنكر مهامه خلفاً لساترفيلد في حزيران 2019، وشهدت هذه المرحلة الاختراق الأبرز مع التوصل في تشرين الأول 2020 إلى “اتفاق الإطار” الذي يحدد إطار التفاوض وآلياته، وفق هذا الاتفاق، ستكون المباحثات غير مباشرة بين الطرفين اللبناني و”الإسرائيلي” بوساطة وتسهيل من أمريكا، ورعاية من الأمم المتحدة، وذلك في المقر الأممي بالناقورة اللبنانية على الحدود مع فلسطين المحتلة، تم الاتفاق أيضاً على أن يصار إلى بحث مسألة الحدود البرية بشكل منفصل، ولكن بموازاة التقدم الذي يحصل في المفاوضات بخصوص ترسيم الحدود البحرية.

أهداف التفاوض لم تكن ثابتة زمنياً أو ظرفياً عند الطرفين خلال السنوات الثماني الماضية، ولكن من المهم الإشارة إلى أن جزءاً أساسياً منها يتعلق بالمصلحة المباشرة للبنان والكيان، والمتمثّلة في الرغبة بالاستفادة القصوى من ثروات النفط والغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما، أما الجزء الآخر من المعادلة فيرتبط بحسابات الولايات المتحدة .

وتظهر هذه الحسابات وفق التالي: عندما وقّع لبنان اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص عام 2007، كان يرغب في القيام بهذه الخطوة حفاظاً على كامل حقوقه الوطنية في استخراج ثروته النفطية والغازية من مياهه الإقليمية، وربما شجعه الاتفاق المماثل الذي تم بين قبرص ومصر عام 2003 على القيام بذلك أيضاً، لكن العقبة الرئيسية كانت في أن الملف لم يكن قد نضج داخلياً بما فيه الكفاية، وكان يخضع لتجاذبات محلية سياسية، في وقت كان فيه لبنان يعاني من أزمات حادة، في المقابل، كانت حكومة الاحتلال قد بدأت الإنتاج من حقلي “نوا” (2012)، و”تمار” (2013)، وكانت ترغب في المزيد، وأملت أن يكون الملف بمثابة مدخل لتحسين وضعها في شرق البحر المتوسط، ولفتح قناة اتصال مع لبنان لتكون مدخلاً للتطبيع السياسي من البوابة الاقتصادية، وهو ما يرفضه لبنان، ويؤكد “أن الحكومة اللبنانية مقبلة على مفاوضات لترسيم الحدود وليس للتطبيع أو لاتفاقات سلام”.

وشكّلت الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2020 نقطة تحول في الملف:

بالنسبة للكيان: فقد عزز من موقعه شرق البحر المتوسط، مع انضمامه إلى منتدى غاز شرق البحر المتوسط في كانون الثاني 2019، وتوقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى مصر في كانون الأول 2019، واتفاقية أخرى مع قبرص واليونان في كانون الثاني 2020 لإنشاء أنبوب “ايستميد” لنقل الغاز من الأراضي المحتلة إلى أوروبا مروراً بهما.

على الصعيد الإقليمي: وقّع نظام أردوغان اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا تشرين الثاني 2019، تلتها اتفاقية أخرى بين اليونان ومصر في آب 2020، وتصاعد النزاع بين تركيا واليونان حول هذه الحدود مصحوباً بإعادة رسم للتحالفات الإقليمية.

بالنسبة إلى لبنان: شهد الوضع اللبناني تراجعاً مهولاً في هذه الفترة، إذ غرق في فراغ سياسي، تبعه انهيار اقتصادي غير مسبوق، مع ارتفاع حجم الدين إلى 92 مليار دولار، وانهيار سعر صرف العملة المحلية، وتخلّف لبنان عن سداد ديونه، وانفجار هائل في آب 2020 أدى إلى تدمير ميناء بيروت، وجزء كبير من الواجهة البحرية، ولم يدع لبنان إلى منتدى غاز شرق المتوسط عند إنشائه، فبدت بيروت معزولة، وعلاوة على ذلك، شهدت هذه المرحلة ازدياد الضغط الأمريكي على المقاومة اللبنانية من خلال العقوبات، وفشل المبادرة الفرنسية لمساعدة لبنان، وهو ما أوحى بأن البلاد ذاهبة إلى انهيار شامل على مختلف المستويات، ما جعل الحاجة للاستثمار الباطني بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتسريع الذهاب باتجاه التنقيب عن الغاز أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

عقدت في شهري تشرين الأول والثاني 2020 ثلاث جولات من المفاوضات بين لبنان والكيان “الإسرائيلي” في موقع تابع للأمم المتحدة في الناقورة اللبنانية، وذلك بحضور الوسيط الأمريكي، ومع نهاية الجولة الثالثة، بدا أن الفجوة بين الطرفين كبيرة وتتسع، لاسيما أن الخلاف لم يعد مقتصراً على المساحة الأصلية التي تقدر بحوالي 860 كلم2، وتغطي جزءاً من البلوكات (8 و9 و10)، وإنما على مساحة إضافية أكبر بواقع 1430 كلم2، تشمل جزءاً من البلوك (72)، وحقل “كاريش” الذي تعمل فيه شركة “انرجيان” اليونانية، وهو ما يرفع إجمالي المساحة المتنازع عليها إلى 2290 كلم2.

ويمكن القول بأن عاملين أساسيين عرقلا التقدم في هذه المفاوضات:

الأول: عدم وجود رغبة لدى الكيان الإسرائيلي في التراجع دون مقابل، إذ بدا أن الجانب “الإسرائيلي” يريد جر الجانب اللبناني إلى تفاوض مباشر، على أن يكون أي اتفاق بينهما جزءاً من “سلام شامل”.

الثاني: تمسك لبنان بسقف حقوقه، وإظهار صلابة في ذلك، وهو ما تفاجأ به الأمريكي و”الإسرائيلي” على حد سواء.

السؤال الأبرز: كيف سيتم استكمال هذا المسار؟ عادة ما تحل النزاعات من هذا النوع بالاستناد إلى عدة آليات، لكل منها ظروفها وشروطها ومتطلباتها، حيث تنص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يجب على أطراف النزاع الذي من شأن استمراره أن يعرّض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر، أن يلتمسوا طرقاً للحل، منها عدة طرق أبرزها التحكيم، والمفاوضات، والوساطة.

1- التحكيم: يمكن لهذا النوع من الخلافات أن يحال إلى التحكيم الدولي متمثّلاً بمحكمة العدل الدولية أو المحكمة الدولية لقانون البحار المنوط بها حل النزاعات المتعلقة بقانون البحار، وهناك قوى نصحت لبنان بالذهاب في هذا الاتجاه منذ البداية، لكن هذا الطرح غير صحيح، وتكتنفه عدة مشاكل، لعل أبرزها:

أ- عادة ما يتم اللجوء إلى هذا الخيار بعد فشل كل المساعي لحل النزاع بالطرق المتعارف عليها، وبهذا المعنى فهو الخيار الأخير وليس الأول في قائمة الوسائل المفضلة لحل النزاع.

ب- الكيان الإسرائيلي ليس عضواً في اتفاقية قانون البحار، وبالتالي لا يمكن إجباره على الخضوع إلى محكمة ناجمة عن هذه الاتفاقية ما لم يرض ذلك بنفسه.

ج- رفع الملف إلى محكمة العدل الدولية كخيار بديل يتطلب موافقة الطرفين، على اعتبار أن نتائج التحكيم ملزمة للطرفين بعد أن يكونا قد ارتضيا إحالة ملف الخلاف بينهما إلى المحكمة وقبول ولايتها، ولذلك لا يمكن للمحكمة أن تجعل النتيجة إلزامية في جميع الأحوال ما لم يقبل الطرفان بذلك.

د- التحكيم يتطلّب وقتاً طويلاً، ونتائجه غير مضمونة بالشكل الذي قد يتوقعه البعض لناحية الحصة التي يفضّل لبنان الحصول عليها.

2- المفاوضات: لا يعترف لبنان بالكيان الإسرائيلي كدولة، وهو في حالة تتراوح دوماً بين الحرب والهدنة، وهو ما يمنع عملياً أي تفاوض مباشر بين الجانبين، ولذلك لا يبدو هذا الخيار متاحاً على الأقل من الجانب اللبناني، وغالباً ما كان لبنان يفضّل الاعتماد على طرف ثالث هو الأمم المتحدة.

3-  الوساطة: ينطوي خيار الوساطة على قبول طرفي النزاع طلب المساعدة من طرف ثالث، أو على قبول عرض من طرف ثالث بالتدخل للمساعدة على التمهيد لمفاوضات بينهما، أو حتى المساعدة على إيجاد تسوية للنزاع.

دور الوسيط يتضمن عدداً كبيراً من الخيارات التي تعتمد في نهاية المطاف على رغبة طرفي النزاع في تحديدها، ولكن من الشروط الأساسية في مثل هذا الخيار أن يكون الوسيط نزيهاً غير منحاز، لأنه إذا لم يكن كذلك فهذا معناه تفريغ هذا الخيار من مضمونه.

بناء على ما سبق، يعتبر خيار الوساطة والتفاوض غير المباشر الخيار الوحيد المتاح، ولكن إذا ما قررت إسرائيل المضي في حرمان لبنان من الاستفادة من المناطق المتنازع عليها انطلاقاً من حسابات تقول إنه سيكون بإمكان تل أبيب- في جميع الأحوال- متابعة استخراج الغاز بحكم الأمر الواقع وميزان القوى، فقد يدفع ذلك لبنان إلى خيار يعتبر فيه أن الطريقة الوحيدة لاستعادة حقه هي بالقوة من خلال تهديد حقول الغاز لديها التي يصعب تحصينها وحمايتها على مدار الساعة.