الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لو كنتُ قاضياً

عبد الكريم النّاعم

فور جلوس صديقي الذي لم يقطعْني كما تقطعني الأيام، وبعد كلمات السؤال عن الصحة، وعن الحال المُعتادَة، قال لي وفي عينيه بريق يُشبه اللهب الغاضب: “هل قرأتَ عن تلك الجريمة التي وقعتْ قبل فترة قريبة في مدينة طرطوس”؟.

قلت: “بلى قرأتُ ما نُشر على صفحات التّواصل الاجتماعي، وتألّمتُ كثيراً، وأنت تعلم نقطة ضعفي، وهي أنّني حين أقرأ حادثة، لا أعرف كيف أصبح الضحيّة، ولا أذكر أنّني غير ذلك في جميع ما مرّ بي، وهذا ممّا يزيد في الألم الحارق، إذ الفارق كبير بين أن تسمع بحدَث، أو تقرأ عنه، و.. أن تُصبح أنت ساحة الحدَث، لقد كنتُ الأمّ والأب المقيّدين، والمكممَّين، وتصوّرت حالة الصبيّتين وهما تُغتصبان، صدّقني كان النّوم عسيراً في عينيّ تلك الليلة، ولا أدري متى نمت.

قاطعني: “أين كانت كلّ هذه الشرور، هل صحيح أنّها ناتج السنوات العشر الأخيرة”؟.

قلت: “أنا لا أشكّ أنّ ما مرّ بنا، بمخلّفاته السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة قد أوْجد من المناخات ما قد يساعد على ذلك، لقد كنّا نسمع عن كثير من الجرائم قبل هذه العشريّة، ولستُ أشكّ أنّ هذه العشريّة قد حملت فيروساتها الخاصّة، وليت مَن يتقصّى ذلك من أهل الاختصاص ليكون شاهداً، ورادعاً، ومؤرِّخاً”.

قال: “لقد حاولتُ أن أتصوّر كيف يكون تكوين أمثال هؤلاء، فعجزت”، قلت: “معك حقّ، في حدود علمي القاصر أنّ الحيوانات لا تفعل ذلك، ولعلّ هذا هو شاهد المحتوى القائل إنّ الله سبحانه وتعالى، خلق الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق الحيوان شهوةً بلا عقل، وخلق الإنسان وجمع فيه العقل والشهوة، فإذا غلب عقلُه شهوته كان في مصاف الملائكة، وإذا غلبتْ شهوتُه عقلَه انحدر إلى أدنى من المستويات البهيميّة”.

قال: “هل ارتحتَ لسرعة القبض على الفاعلين، وإحالتهم، كما قرأنا، أو كما استنتجنا، إلى المحكمة الميدانيّة في القضاء العسكري، وصدور الحكم بإعدامهم”؟.

قلت: “نعم أراحني بعض الشيء، وهدأت وساوسي لتغليب ظنّي أنّ المحاكم الميدانيّة تُصدِر الحكم وتنفّذه، وكم تمنّيتُ لو يكون التنفيذ علنيّاً، وأمام الجمهور، ليكون أمثال هؤلاء الوحوش عبرة لمن يعتبر، وكم أتمنّى أن تنتقل المجابهة القضائيّة السريعة القرار، والفوريّة التنفيذ إلى مساحات أخرى، لأنّ ثمّة مَن يفعل ما هو أكثر وحشيّة، وبهيميّة، وإلاّ فماذا نقول عن الذين يتلاعبون بأقوات النّاس من أجل تكديس بيادر من الفضة والذهب لا تأكلها النيران، أليس المتلاعبون بسعر الدولار الذي (يرفعونه) يوميّاً، هم وشركاؤهم، والمتستّرون عليهم، ويزداد الغلاء بين ساعة وأخرى،.. أليس في هذا اغتصاب بطريقة ما؟!! إنّ المعاناة الحقيقيّة للحياة اليوميّة أعمق تأثيراً وتدميراً بآلاف المرّات ممّا نسمع بعضه، ونعايش ونعيش بعضه الآخر”.

عدّل جلستَه، وبدا أكثر جديّة وقال: “أتمنّى لو كنتُ قاضياً في المساحة التي أشرتَ عليها”..

قلت بما يُشبه الاستفزاز: “وماذا كنتَ ستفعل غير أن تنطق بالأحكام بحسب نصّها القانوني”؟!.

قال بحزم: لا، أنا كنتُ سأحكم بحسب نصّ الآية القرآنيّة الواردة في سورة المائدة، القائلة: “إنّما جَزاءُ الذين يُحاربونَ اللهَ ورسولَهُ، ويَبغونَ في الأرض فَساداً، أنْ يُقتَّلوا، أو يُصَلّبوا، أو تُقْطَعَ أيديهم وَأرجُلَهم من خِلاف، أو يُنْفَوْا من الأرض، ذلكَ لهم خِزْيٌ في الدّنيا، ولهمْ في الآخرةِ عذابٌ عظيم”.

قلت: “في الآية عدّة مستويات من العقوبات، بل يمكن اعتبارها خيارات، فأيّ العقوبات كنتَ ستَتبنّى”؟.

قال مرتاحاً: “هَها، كنتُ أختار تقطيع اليدين والرجلين من خِلاف، أتعلم لماذا”؟.

قلت: “لا لا أعلم، فقل لي”.

قال: “لأنّ حكم الإعدام الذي يُنفَّذ لا يتجاوز عذابه الرّبع ساعة على الأكثر، وهذا عذاب قليل جداً لأمثال مَن ذكرنا، لذا سآمرُ بقطع اليد اليمنى والرّجْل اليُسرى، وأن يُترَك هكذا يُواجِه بقيّة أعوامه، فيعاني ممّا آل إليه، وتُلاحقه أعينُ الذين يعرفونه، وأبناؤهم بالاشمئزاز، ويظلّ في عذابه الدنيوي إلى أن يُنقلَ إلى عذاب الله الأكبر بعد الموت..”.

aaalnaem@gmail.com