مجلة البعث الأسبوعية

جدة الكاميرات.. تراث اللقطة الحلبية بالأبيض والأسود

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

المدينة المستيقظة على الهضبة، تفتح عيون قلعتها على الفصول، وتنظر إلى مناطقها كافة، لتبدو مثل “تلسكوب” يعمل على صفاء النية بحاسته السابعة، متأملاً أحوال الناس الذين كانوا هنا في القرن التاسع عشر، وكيف كانت حياتهم تعتمد على البساطة الشديدة والعفوية البرّيّة، وكيف كانت آلة التصوير الجديدة تجذبهم بلقطاتها، وكيف كان المصور يرتدي القماشة على رأسه ليكون الإعتام مناسباً للعدسة وهي تلتقط الهدف ضمن “الفوكاس” المحدد، لتكون عين المصور فنية تقترب من تحويل اللقطات إلى لوحات.

هذا ما كانت عليه حلب، وهي ترصد منطقة الجميلية، عام 1956، وكيف يزدحم الناس في عبّارة عتيقة المبنى في شارع الشاعر البحتري، وهم يتوافدون على المصور ديكران، الخبير ليس بالتقاط الصورة وتجميد اللحظة والمشهد، بل، أيضاً، الخبير بالعوامل والعناصر الفنية المتناغمة بين جدة الكاميرات الكبيرة الأولى وبين حاسته البصرية التي تلتقط الجماليات ثم تحولها إلى صورة من خلال تحميض الأفلام يدوياً.

ولو جمعنا “نيغاتيف” الأفلام، لأخبرنا ديكران خربويان عن تلك العتمة، وهي تستقر في مخبره لتخرج الصور إلى الأبيض والأسود، ولنتعرف إلى العديد من الشخصيات الحلبية التي صورها، مثل صباح فخري أيقونة حلب الذي ما إن تتأمل صورته حتى تستمع روحك إلى الغناء الحلبي الأصيل من قصائد وموشحات وقدود، وميادة حناوي مطربة الأجيال وهي تصدح بقصيدة الجواهري “شممت تربك”، وأيضاً، تلتفت في “أستوديو ديكران” لتطالعك صورة عمر حجو الممثل الحلبي الذي ترك بصمته في أعماله، ورحل كما رحل المصور ديكران مع بداية العشرية الإرهابية، تاركاً روحه تحوّم بين من صوّرهم، من شخصيات دينية وتجارية وفنية وأدبية وعامة.        لن أنسى كيف كان أبي، رحمه الله، يصطحبني معه أينما كان، وكان دليلي الآثاري السياحي بين القلعة وأسواق المدينة وحاراتها وأزقتها ومناطقها الحيوية وجوامعها وكنائسها، وكيف كنا نتسكع في رحلاتنا السياحية الداخلية وهو يبحث عن القطع الآثارية التي يعشق اقتناءها من ساعات وأدوات فخارية وموسيقية و”قباقب فسيفسائية”، وأثاث وأدوات منزلية وغيرها، وكلما وصلنا إلى الجميلية دخلنا إلى أستوديو المصور ديكران.. هنا، رأيت، الآن، خطواتي الصغيرات تمشي في هذا الأستوديو، وشعرتُ بأنامل أبي تمشط شعري لأكون اللوحة الأجمل التي يحبها، ثم نظرت إلى المكان من جديد، وشاهدت صورة ديكران بين الشخصيات الحلبية المعلقة على الجدران، والصامتة، إلاّ قليلاً، تحت زجاج المكتب الشفاف.

تساءلت عن أسرار الفن في هذا المكان مع جورج حماليان المصور الحالي لأستوديو ديكران، وهو من مواليد 1944، فأجابني: منذ صغري وأنا أعمل في فن التصوير، وكنت مع ديكران منذ التحميض اليدوي بالعتمة، وتعلّمت منه الخبرة اليدوية والدقة في العمل والإنجاز، ثم تطورت أدوات التصوير، وانتقلنا إلى الملوَّن، وكنّا نهتمّ بخلفية الصورة، ونجمّلها بالمشهد المناسب، ومن أهم الأسرار الهارموني بين الضوء والظل، وكثافة الألوان، والملامح الداخلية المنعكسة على الملامح الخارجية والعوامل المحيطة باللقطة.

أمّا عن علاقة هذا التراث التصويري واستمراريته في ظل الكاميرات الرقمية، فأخبرني حماليان: نتطور مع أدوات العصر، ورغم وجود الكاميرات بين أيدي الجميع وهواتفهم الجوّالة، إلاّ أننا ما زلنا نعمل بفنية مختلفة.

غادرت الأستوديو ومضيت، وظلت في ذاكرتي صورة المطربة حناوي وصوتها الذي غنّى “شممت تربك” للجواهري، و”ليه يا بنفسج” التي صدحت بها كما صدح بها صالح عبد الحي؛ وكلما تصفّحت ألبومات صوتها في دواخلي، رأيت كيف تزهر الذكريات في شوارع حلب، وكيف درست مطربة الأجيال في مدارسها، بينما تبرز سيرة صباح فخري مع كل نسمة هواء تعبر هذه المدينة الشهبائية، وتشرد بين “ع الروزانا” و”خمرة الحب اسقنيها”، والقدود والموشحات.

ولا تنسى هذه الذاكرة مشاهدها الملتقطة بالأبيض والأسود تاريخها، وكيف كانت العزيزية، وساحة باب الفرج، وأسواق المدينة، والقلعة بحجارتها الفائضة بالحكايات التأريخية والتراثية والمعاصرة، خصوصاً، عندما كان يمر الناس حولها، ويصادقها الساكنون في بيوتهم العريقة ذات الفسحة المزهرة بأحوالهم، وأحوال غرفهم، وأبوابهم القديمة المزركشة، ومصاريعها المضيافة، ونافورتها المائية الصغيرة وهي تتوسط صحن الدار، بينما ترفع مياهها إلى الأعلى من أفواه السباع الحجرية الملتفة حول بركة الماء.

وقبل منعطف العودة إلى اللحظة، أستعيد ما مضى من الوقت بين مدرسة كيليكيا في أحد أزقة التلل الأثرية، التي قضيت فيها طفولتي كبراعم أولى وثانية، وكيف كانت تصطحبني إليها مديرتها الفنانة التشكيلية صافيناز، بحكم الجيرة والمحبة، وبين الحجارة البازلتية القريبة من حي الجديدة الضاج بالحركة التجارية بين الذهب والدجاج والأقمشة والأثاث ورائحة الفول التي تجعل الحاج عبدو ينافس الحاج رضا، بينما تبرز الأسماك بعيونها اللامعة في دكاكين أخرى.

ما زالت مدينة حلب تحدق بصورتها القديمة اللامعة بمشاهد تراثية بالأبيض والأسود، فتبدو المآذن معانقة الكنائس، ولن تستغرب إذا ما سمعت صوت الآذان مع صوت القداس يذكّران بالصلاة منذ ما قبل الأبيض والأسود وحتى الآن وبعد الآن.

ولن تنسى كيف كان، وما زال، محيط القلعة يبتسم وهو يرى أهالي حلب يحيطون به، ويجلسون بين المقاهي المحيطة بالقلعة، أو يمارسون الرياضة بين النهار والليل.

لا القلعة ولا المدينة تنسى جنودها الأبطال الذين حرسوا هذه الحياة، فاستشهدوا، لتنتصر سوريتنا الحبيبة، وتعود الحجارة إلى مساكنها، والأشجار إلى فصولها، والمغادرون إلى بيوتهم، والعصافير إلى أشجارها، والسماء إلى لونها الماكث نصفه في لقطة “ديكران”، والمتحرك نصفه بين الغيوم والبيوت ودلالات الألوان.