الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فزاعات الحواكير..!

حسن حميد

أعرفُ، وتعرفون، أيها القرّاء الكرام، أن لكل زمن وعصر وفترة زمنية صورها وأشكالها وتعليقاتها التي يبديها الناس للمفاخرة أو الانتماء أو التحلي بها، ومن هؤلاء الناس الكتّاب والفنانون وأهل الفكر، فقد كانت الصالونات الأدبية في بلاد الغرب هي المصدر الأساسي لتلك الصور والأشكال والتقليعات التي تبناها المثقفون وأهل الفن والرأي ومنها الثياب، وقصة الشعر، واللحى، والأحذية، وكيفية التدخين، وحمل المناديل.. إلخ. وكلها كانت استقواءات خارجية لا علاقة لها بالكتابة الجديدة، والنصوص الممتلئة بالمعرفة والحذق، وظلت حالات استقواءٍ حتى عندما تحلّى بها بعض الكتّاب والفنانين مثل سلفادور دالي، أو أوسكار وايلد، فقد ظلت تمظهرات فحسب تدلّ على الغرابة وتبنيها، ولم تمنح الرسوم والنصوص غنى مضافاً، فظلت النصوص نصوصاً بعيدة عن هذه التمظهرات، وظلت التمظهرات حالات للتندر والتفكه فحسب.

أقول هذا الآن، وأنا أرى حالات استقواء مشابهة يتبناها بعض الكتّاب والفنانين ويسعون إليها، وكأنها هي المؤيّد الحق والجليّ لنصوصهم أو أعمالهم الفنية، كأن يتفاخر كاتب أو فنان بأن مجلة ما، إلكترونية على الأغلب الأعمّ، أرسلت إليه رسالة من سطرين تقول له إنه سفير الفن، أو سفير الأدب، وإنه المفوّض بإرسال ما يشاء، وما يجمع من نصوص الآخرين إلى المجلة، وتصفه بالعبقري، والكبير، والخبير، وهو الذي لم يعرف بعد إن كان يكتب نصاً خالياً من أغلاط الواجب الإملائي، أو يصنع لوحة خالية من العيوب الفاقعة.

والأعجب أن بعض الكتّاب والفنانين يسعون إلى حيازة ألقاب مثل: سفير النوايا الحسنة (وكلمة نوايا غلط شائع)، أو سفير السلام والجمال والمحبة، وهؤلاء، للأسف، يكاتبون جهات لا مصداقية لها، ولا حضور لها في الآداب والفنون، من أجل أن تخلع عليهم مثل هذه الألقاب أو الصفات، وهم يظنون أن حيازتهم لهذه المسميات سيجعل من نصوصهم بيارق المجد الذي يصبون إليه، وهذا وهم، بل أكثر من وهم، لأن النصوص عمائر لا تقيمها وترفع بنيانها سوى المواهب الثقيلة التي عرفت معنى الانتماء لعالم الآداب والفنون، ووعت متى تصير الآداب آداباً، ومتى تصير الفنون فنوناً.

كلّ هذه الألقاب والتسميات والصفات هي رطانة هجينة، وسلوكيات غريبة لم يسعَ إليها أحد من أهل القامات الأدبية والفنية العالية، تلك القامات التي لم تصبح عالية إلا بالموهبة والمعرفة والاجتهاد والمساهرة الطويلة كي تكتسب النصوص الأدبية والأعمال الفنية بعض معاني الخلود والحضور والبقاء.

لم يسعَ تولستوي، وغوته، وبيكاسو، وطاغور، وحنا مينه، ونجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وفاتح المدرس، وفايز خضور، ومحمود درويش، ونزيه أبو عفش، وعبد الكريم الناعم، وأحمد يوسف داوود، وحنا عبود.. إلخ إلى مثل هذه الأمور من أجل أن تصير نصوصهم، وأعمالهم الفنية أكثر جمالاً، أبداً، لقد كتبوا ورسموا بمواهبهم وثقافتهم طلباً للمضايفة الحقة إلى مدوّنات من سبقوهم من أهل الإبداع.

هذه الألقاب والصفات هي أشبه بفزاعات الحواكير، فهي لا تضيف أي معنى لغلال الحواكير، وأول من يعرف أنها فارغة وهشّة وقشيّة لا حول لها ولا قوة، هم الذين يتراكضون نحوها من أجل التحلي بها، تماماً مثلما تعرف العصافير الخديعةَ التي تستقوي بها الفزاعات، ليس من أجل الزقزقة، وإنما من أجل أشياء أخرى!.

Hasanhamid55@yahoo.com