دراساتصحيفة البعث

رواية الاستثنائية الأمريكية الكاذبة

ترجمة: عناية ناصر

الثقافة السياسية الأمريكية مليئة بظاهرة تُعرف باسم “الاستثنائية الأمريكية”، وهو ما عزّز الاعتقاد بين المواطنين الأمريكيين بأن بلادهم أمة ذات صفات وسمات أخلاقية لا مثيل لها. وبدعم هذا الشعور المتضخم بتقدير الذات، تصوّر الولايات المتحدة نفسها على أنها قوة عالمية للعدالة والنزاهة، فهي تزعم أنها بلد مناهض للاستعمار ومعادٍ للإمبريالية يدعم إرادة جميع الشعوب في التحرر تحت عنوان “الديمقراطية وحقوق الإنسان”. لذلك نجدها تتهم كل خصم ومنافس جيوسياسي تواجهه بأنه تهديد للقيم التي تعتز بها، بل تعتبره حرباً بين الخير والشر.

هذه المزاعم ليست مضللة من الناحية الواقعية فحسب، بل إنها تزييف بشع للتاريخ يحاول دحض النقاش الصادق حول أصول الدولة ودوافعها وصعودها كقوة عظمى. تدّعي أمريكا أن ثورتها ضد الإمبراطورية البريطانية هي تفويض لسعيها لتحقيق الحرية ومناهضة الاستعمار في جميع أنحاء العالم، لكن هذا يحجب الحقيقة الأكثر تجريبية بأن الولايات المتحدة دولة مستوطنة برجوازية برزت إلى الصدارة من خلال الإبادة الجماعية والتوسع، والعدوان.

وبالتالي فإن أمريكا هي “كتاب ديمقراطي بورجوازي”، تتمتع بالقشرة الخارجية للديمقراطية، وتتمتّع بترتيبات سياسية ممنهجة عملياً لتأمين مصالح طبقاتها الحاكمة. وما يدلل على ذلك أنها تأسّست من قبل مجموعة من ملاك الأراضي الرأسماليين التوسعيين الذين كانت لديهم شكاوى اقتصادية ضد التاج البريطاني من خلال سياسات الضرائب الاستعمارية. كانت الثورة الأمريكية “ثورة برجوازية” تهدف بموجبها الطبقات المالكة للأراضي إزالة نفوذ الملكية لتوسيع مصالحهم وتولي السيطرة السياسية. هذه النظرة الأمريكية “لتقرير المصير” هي وجهة نظر تستند إلى أيديولوجية “الحرية الكلاسيكية”، وهذه الأيديولوجية لا تأخذ في الحسبان عامل الاستغلال والسيطرة الاقتصاديين الذي هو المقياس الحقيقي للإمبريالية.

لذلك فإن تسمية الولايات المتحدة بأنها “دولة مناهضة للاستعمار” هي تسمية مضلّلة، ومن الأصح وصفها بأنها دولة استعمارية معادية للملكية. كانت الولايات المتحدة المستقلة حديثاً توسعية، واستولت تدريجياً على الأراضي من الأمريكيين الأصليين بينما كانت تتحرك بقوة باتجاه الغرب بهدف توحيد السواحل الشرقية والغربية تحت ما كان يُعرف باسم “المصير الحتمي”. وشمل ذلك سلسلة من الحروب ضد خصومها الجيوسياسيين مثل المكسيك وإسبانيا، والتي ضمّت منها مساحات كبيرة من الأراضي بالقوة مثل كاليفورنيا وتكساس وحتى الفلبين في آسيا. كما تمّ بناء البلاد على عمل العبودية خلال الستين عاماً الأولى أو نحو ذلك من وجودها، مما يدل على أنها لم تلتزم بالحقوق والمساواة العالمية.

من أين أتت هذه الصورة المزيفة للتاريخ؟ إن إحساس أمريكا بالاستثنائية هي رواية تطوّرت بمرور الوقت مع توالي الأحداث الجيوسياسية والتاريخية. وبدلاً من كونها متسقة منذ البداية، كانت الولايات المتحدة قادرة على استخدام الانتصارات على منافسيها وخصومها الجيوسياسيين في المقام الأول من أجل إضفاء الشرعية على أيديولوجيتها وموقعها دولياً، بما في ذلك ألمانيا النازية وإمبراطورية اليابان والاتحاد السوفييتي. وبعد أن انتصرت في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت من الناحية العملية منافسة جيوسياسية بين الوضع الراهن والإمبراطوريات الصاعدة، أوجدت الولايات المتحدة أسطورة أن مثل هذا النصر يعني أن المنتصرين كانوا “الأخيار” في التاريخ، ويتصرفون من منطلق مصالح جميع الناس، وبالتالي لم يعد لجرائمهم السابقة صلة. وهذه سمة مشتركة أيضاً مع دول “أنكلوسفير” الشقيقة مثل بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.

وبناءً على هذه الرواية أعادت الولايات المتحدة توصيف نفسها من دولة استيطانية استعمارية توسعية عبر الإبادة الجماعية، إلى أمة صالحة دافعت عن الحرية والديمقراطية للجميع، وأنه كان لديها دائماً نوايا حسنة. ومنذ ذلك الوقت، تم تطبيق هذا الاستثناء على كل صراع جيوسياسي تواجهه أمريكا، إذ يتمّ استخدامه لإثارة الهستيريا الغزيرة بين سكانها لتضخيم الشعور “بالتهديد” على “قيم أمريكا” وتبرير المزيد من الحرب والعدوان حول العالم، لكن لا ينبغي لذلك أن يُنسي حقيقة التاريخ، والنظر إلى الولايات المتحدة على ما هي عليه في الواقع مقابل ما يدّعون أنها عليه.