مجلة البعث الأسبوعية

فرنسا وأمريكا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بعد “أوكوس”

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

اهتزت فرنسا بشدة يوم الخامس عشر من أيلول، عندما سمعت عن الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الولايات المتحدة وأستراليا بشأن العلاقة التي كانت باريس وكانبيرا تبنيانها بصبر على مدى العقد الماضي. كان من المعروف أن عقد الغواصة الفرنسية كان في مأزق، لكن لا يبدو أن أحدا يعلم أن الولايات المتحدة كانت تعمل مع الحكومة الأسترالية على خيار بديل لعدة أشهر. بالتأكيد لم يكن هناك أي ذكر لذلك في البيان المشترك الذي احتفى بقوة بالتعاون الثنائي الصادر عن باريس وكانبيرا مؤخرا، في 30 آب.. يحب الاستراتيجيون الأمريكيون التحدث عن تكتيك “الصدمة والرعب”، إلا أن الأمر عادة ما يتعلق حينها باستهداف عدو.

ومع ذلك، فإن الإعلان عن الشراكة الأمنية الثلاثية الجديدة بين المحيطين الهندي والهادئ نابع من اعتبارات استراتيجية مدروسة جيدا، مثل المكاسب السياسية الأمريكية والبريطانية؛ وتحت الاسم المختصر غير الأنيق “أوكوس” (أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) تكمن الرغبة في زيادة حجم التعاون العسكري والتكنولوجي بين الدول الثلاث بشكل كبير، بهدف رئيسي هو مواجهة طموحات الصين في المحيطين الهندي والهادئ، حيث لا يتعلق الأمر بالغواصات فحسب، بل بإمكانية التشغيل البيني والذكاء الاصطناعي أيضا.

 

مدفع أطلق في المحيطين الهندي والهادئ

تشير هذه الشراكة أيضا إلى زيادة ملحوظة في القوة السياسية لـ “الأنغلوسفير”، والتي غالبا ما يشار إليها في فرنسا عن طريق الخطأ باسم “الأنغلوسكسونية”. إن أهمية ذلك معروفة جيدا، لا سيما في الإطار السري للمعلومات الاستخبارية المتبادلة بين “نادي” العيون الخمسة (إلى جانب كندا ونيوزيلندا). في الواقع، احتفلت الدول المعنية مؤخرا بالذكرى السنوية السبعين لمعاهدة “الأنزوس”، والتي تضم أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة؛ أما بالنسبة للندن، فإن مشاركتها تتناسب تماما مع استراتيجية بريطانيا العالمية في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد يؤذي ذلك الفرنسيين، لكن ليس من المفاجئ تماما أن يعلن مسؤول أمريكي كبير أنه ليس للولايات المتحدة حلفاء أفضل من المملكة المتحدة وأستراليا.

ومع ذلك، سيكون هناك ثمن يجب دفعه، فمن الآن فصاعدا، ستواجه فرنسا مشكلة في الوثوق بالتزام بايدن المتكرر بمشاركة أكبر للاتحاد الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فضلا عن رغبة الولايات المتحدة في زيادة التنسيق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، جنبا إلى جنب مع حلفائها في مواجهة الصين. لقد شجب وزيرا الخارجية والدفاع الفرنسيان، جان إيف لودريان وبارلي، محقين، “عدم الاتساق” في النهج الأمريكي. وما زاد الطين بلة أن الإعلان الأمريكي صدر في نفس اليوم الذي نُشرت فيه الاستراتيجية الأوروبية للمنطقة، ولذلك فإن حدث يوم الخامس عشر من أيلول “يزيد فعليا من الحاجة إلى إثارة وتوضيح مسألة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية.”

ذكرت صدمة باريس بشكل عكسي بما شعرت به الولايات المتحدة، في عام 2003، بشأن الموقف الفرنسي تجاه غزو العراق. لكن هذه المرة، سيستغرق الأمر أكثر بكثير من زيارة دولة، مثل زيارة هولاند، في شباط 2014، لإصلاح الأضرار. علاوة على ذلك، يأتي ذلك بعد أسابيع قليلة فقط من أزمة الثقة التي سببها الانسحاب الأمريكي من كابول. وليس هناك شك في أن إيمانويل ماكرون يشعر بأنه محق بقوله إن منظمة حلف شمال الأطلسي في حالة حرجة.. هكذا، يتم تأكيد الرواية الفرنسية التقليدية حول عدم الثقة بأمريكا، وقد اعتبر الوزيران لودريان وبارلي أن حدث الخميس “يزيد فقط فعليا من الحاجة إلى إثارة وتوضيح مسألة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية”.. تتعلم باريس دروسا مهمة وهي تستعد لرئاسة الاتحاد الأوروبي!!

 

ضربة للتعاون الفرنسي الأسترالي

بلغت قيمة “عقد القرن” الخاص باثنتي عشرة غواصة قصيرة الزعانف من طراز باراكودا – وهي أنموذج من غواصة باراكودا الفرنسية الحالية يتم صنعه وفقا للمواصفات الأسترالية – 35 مليار يورو. وقد تم تخصيص 8 – 9 مليارات يورو من ذلك المبلغ لشركة “نافال كروب”، التي تمتلك الدولة الفرنسية 60٪ منها. وكان توقيع العقد قد تم في عام 2016، وكان العمل على إنجازه يسير على قدم ساق بالفعل، بمشاركة عدة مئات من الأشخاص، بمن في ذلك العديد من الأستراليين في شيربورج. ولم يتخيل أحد في فرنسا أن واشنطن يمكن أن تقدم لكانبيرا بديلا حقيقيا، وذلك لأن العملاق الصناعي لوكهيد مارتن كان شريكا في صناعة أنظمة القتال، ولأن الولايات المتحدة ليس لها تاريخ في بيع الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية.

لكن العرض الأمريكي يتجاوز ذلك، فواشنطن لن تزود أستراليا بهذه السفن فحسب، بل ستسلحها أيضا بصواريخ توماهوك ضمن الإطار الأوسع لتعاون ثلاثي كبير في مجال تقنيات الدفاع والأمن؛ ويعتبر ذلك أمرا جذابا بشكل مفهوم للأستراليين والأمريكيين، إذ أن الوضع في المنطقة أصعب بكثير مما كان عليه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ وهو ما يفسر، على سبيل المثال، سبب تحرك حتى حزب العمال الأسترالي لقبول الغواصات التي تعمل بالدفع النووي، لأنها توفر ميزة عسكرية حقيقية من حيث مدة الدوريات وسريتها. أما بالنسبة لفرنسا، فقد كان عقدها جزءا من منطق أوسع لبناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد، تمتد لمدة خمسين عاما، – كما قالت باريس – وقد تم إرساء الأساس على امتداد عدة سنوات من الحوار غير الرسمي بين المسؤولين الحكوميين والخبراء. ولكن هذه الشراكة تم نسفها قبل أن تتحقق، ما أدى إلى وصف الفرنسيين لقرار كانبيرا بأنه “مخالف لنص وروح التعاون الذي ساد بين فرنسا وأستراليا”. كانت هذه العلاقة إحدى ركيزتين للاستراتيجية فرنسية في المحيطين الهندي والهادئ، والأخرى مع الهند عبر صفقة رافال.. الميزة الوحيدة لباريس هي أنها ستقلل من عدد منتقديها الذين يعتبرون أن استراتيجيتها الإقليمية تتماشى، على نحو خاطئ، مع استراتيجية الولايات المتحدة.

 

جرح في نظام عدم الانتشار

من المؤكد أن الدفع النووي له مزاياه، لكن التكنولوجيا حساسة. لهذا السبب، حتى الآن، لم تقم أي دولة نووية ببيعها إلى دولة غير نووية (تمتلك ست دول فقط تكنولوجيا الدفع النووي: القوى النووية الخمس الرسمية والهند). ولم تفعل فرنسا ذلك أبدا على الرغم من الطلبات الواردة من البرازيل على سبيل المثال، وعلى الرغم من أنه سيكون من السهل نسبيا بيع طراز من الغواصات كانت تستخدمه بالفعل. بالإضافة إلى ذلك، لم تطلب أستراليا وقت توقيع العقد تكنولوجيا نووية. الآن، كسرت الولايات المتحدة المحرمات!! ماذا كان الأمريكيون سيفعلون لو فعلت فرنسا ذلك؟ هل يعني هذا أن أستراليا ستتمكن من الوصول إلى هذه التكنولوجيا، وتكرارها بعد ذلك؟ بالتأكيد لا!! وستكون الخبرة الفنية بمثابة “صندوق أسود” لن تتمكن أستراليا من الوصول إليه؛ وهذا يعني أيضا أنه لا خطر من انتشار الأسلحة النووية. بالطبع، من شبه المؤكد أن المفاعلات ستستخدم اليورانيوم عالي التخصيب، وهي التكنولوجيا المستخدمة حاليا من قبل الأمريكيين والبريطانيين. وعلى العكس من ذلك، اختار الفرنسيون المسار الأكثر منطقية لليورانيوم منخفض التخصيب، والذي لا يمكن استخدامه بشكل مباشر لصنع قنبلة. وما يمكن أن يؤدي إليه كل ذلك هو إحياء النقاش في أستراليا حول صوابية وجود برنامج نووي مدني – أو حتى مدني وعسكري مشترك – لأن العرض الفرنسي لعام 2016 لم يمنع من الناحية الفنية تطوير حلول دفع نووية وطنية على المدى الطويل .

إن التغييرات التي نشهدها لا تحمل أخبارا جيدة لمؤتمر الخمس سنوات القادم حول معاهدة عدم الانتشار، المقرر عقده في كانون الثاني 2022، لأن اليورانيوم عالي التخصيب يفلت من الضوابط الدولية عندما يتم استخدامه للدفع وحده؛ وهذا الاستخدام لا مفر منه، إذ من الصعب تخيل مفتشين أجانب يتحكمون في محركات أسطول غواصات دولة ما. وبالتالي، يمكن إزالة اليورانيوم عالي التخصيب من المنشآت الخاضعة للرقابة بزعم استخدامها في الدفع النووي، وهو نوع الخطوة التي يمكن أن تتخذها إيران، على سبيل المثال. علاوة على ذلك، يمكن لدول أخرى الآن بيع مفاعلات دفع مماثلة لدول غير نووية، مستشهدة بالسابقة الأمريكية الجديدة.

 

تحرك للأمام

أما بالنسبة لفرنسا، فعليها الآن المضي قدما، وهي بحاجة إلى تسوية النزاع التجاري بسرعة، وفوق كل شيء، فصله عن الإصلاح الضروري لاستراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ.

وستظل فرنسا بالتأكيد قوة في المنطقة، كما ستظل أستراليا، من ناحية أخرى، بحاجة إلى الصين “جارتها الباسيفيكية”، فلا أحد يريد أن تكون بكين قادرة على الاستفادة من التوترات بين الدول الغربية؛ ومن هنا جاء الاهتمام، على سبيل المثال، بمواصلة المحادثات ليس فقط من خلال القنوات الرسمية، ولكن أيضا من خلال خبراء “المسار 2″، ومديري وخبراء “المسار 1.5”.

وستطرح أسئلة خلال الثمانية عشر شهرا من المناقشات المخطط لها بين البلدان الثلاثة المعنية. وبالنسبة لبعض المشاريع والعمليات، هل سنرى فرنسا تنضم عرضيا إلى تنسيق “أوكوس”؟ أم هل ستضطر فرنسا بالأحرى إلى اللجوء إلى ألمانيا واليابان من أجل استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ؟ من المفارقات أن هذين البلدين كانا أيضا منافسين على عقد الغواصة الأسترالية.. بالنسبة لفرنسا، سيكون ذلك أيضا درساً ومراجعة للذات لا مفر منها..