دراساتصحيفة البعث

لهذا السبب واشنطن تخشى التنين الصيني

محمد نادر العمري

مرة جديدة تسارع وسائل الإعلام الأمريكية ومسؤولوها المستقلون إلى كشف حقيقة دوافع السياسات والتوجهات الأمريكية على صعيد السياسة الخارجية، سواء من حيث علاقاتها التقاربية التعاونية أو من حيث إبراز أسباب اعتدائها أو تصعيدها تجاه دولة ما أو مجموعة من الدول، بما في ذلك الصين.

فعلى الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2010 والتي تبنّتها إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” وأعلنتها وزيرة الخارجية في تلك الفترة هيلاري كلينتون وأفردت للترويج لها العديد من اللقاءات الإعلامية، ومحاضرات داخل عدد من المراكز البحثية وفي الجامعات الكبرى، تضمنت أنه “يتوجب على الولايات المتحدة احتواء النمو الصيني الذي بات يسبّب خطراً على الولايات المتحدة والدول الليبرالية الحرة -وفق وصف الإستراتيجية- نتيجة قيام بكين باتباع سياسات اقتصادية غير حرة، سواء من حيث خفض قيمة العملة الصينية أو من حيث إغراق السوق بالبضائع الصينية”.

هذه الذريعة بقيت الغطاء الشرعي الذي تدّعيه إدارة الرئيس دونالد ترامب في رفع وتيرة صراعها ضد الصين بحجة حماية النظام الليبرالي والرأسمالية من خطر “التوحش الاقتصادي الصيني” وهو الوصف الذي استخدمه ترامب في حملته الانتخابية للترويج لادّعائه بحماية “أميركا أولاً”. ولكن سرعان ما بدأت حقيقة الصراع تتضح وتخرج من باطنها الخفي، عندما لوّحت أميركا باتخاذ عقوبات اقتصادية وعقوبات ضد بعض الدول الأوروبية ومنها بريطانيا في حال تعاملت مع شركات صينية تكنولوجية عموماً، وبشكل خاص في حال اعتماد الجيل الخامس الصيني المتطور.

هنا بدت الصورة أكثر اتضاحاً لتكشف بعدها مجلة “فورين بوليسي” بأسابيع أن خطر التنين الصيني على الولايات المتحدة لا ينحصر في المجال التجاري فقط بل التكنولوجي، حيث إن أميركا حافظت على قوتها على مر عقود منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية هو احتكارها التكنولوجية المؤثرة، وعندما تفقد أميركا هذه الميزة فإنها من المؤكد سيؤدي كنتيجة حتمية لذلك لأن تفقد أميركا هيمنتها، فالدول لن تعود بحاجتها ولن تنظر إليها كمجال حيوي.

وربما من أكثر ما تخشاه واشنطن في هذا الجانب يتمثل في عدد من النقاط، منها أنه في ظل الهيمنة الأمريكية على التكنولوجية واحتكارها لها، كانت تفرض على الدول اتخاذ مواقف سياسية أو تنازل عن مواقف سياسية لمصلحة تعزيز الهيمنة الأمريكية. وأبرز الأمثلة على ذلك يكمن في صورتين، صورة إخضاع العالم للتكنولوجية الأمريكية ومركزية إنتاجها وتوزيعها وما يتضمنه ذلك من تبعات أموال طائلة وتجسّس واحتكار وصولاً للتبعية، والصورة الثانية متابعة التكنولوجيا وإبقاؤها تحت النظر الأمريكي كما هي حال اليابان.

ومن النقاط البارزة التي تخشاها واشنطن في نمو خصومها تكنولوجياً هو انقلاب السحر على الساحر، حيث طالما كانت توظف أمريكا التقدم التكنولوجي للتجسّس على الدول، والآن مع التقدم الذي حققته الصين تخشى أن تكون هي ضمن دائرة التجسس، ولذلك سارعت واشنطن لمنع الجيل الخامس الصيني من تقنية الشبكة العنكبوتية للوصل للدول الأوروبية، خشية أن تتحوّل قواعده العلنية وغير العلنية ضمن هذه الخارطة الجغرافية تحت أعين الصين، فضلاً عن خشية واشنطن من فقدان تبعية الحظيرة الأوروبية لها والتي يعود مرتكزها منذ مشروع مارشال.

آخر صور وحقائق هذا الصراع كشفته تصريحات نيكولاس تشايلان، أول رئيس للبرمجيات في وزارة الدفاع الأمیركية، والمستقيل من منصبه في منتصف شهر أيلول من العام الجاري لصحيفة “فاينانشال تايمز” عندما سئل عن سبب الاستقالة، فأجاب “احتجاجاً على الوتيرة البطيئة للتحول التكنولوجي في الجيش الأمیركي، ولأنه لا يستطيع الوقوف لمشاهدة الصين تتفوق على أميركا، واصفاً بأن الصين ستهيمن على العالم وأن أميركا لن تستطيع مقارعتها ومجاراتها ومنافستها خلال 15 إلى 20 عاماً”.

وهو ما يؤكد في صورة لا لبس فيها طبيعة الصراع الحقيقي الدائر على مستوى أقطاب المنظومة الدولية، فامتلاك التكنولوجيا اليوم بات أخطر من امتلاك السلاح النووي، وأكثر تأثيراً على مكانة الدول وبالدول المتأثرة بها، وربما طبيعة التحالفات الأمريكية الجديدة واستراتيجيتها الاستفزازية في بحر الصين الجنوبي، ومحاولة تطويق الصين بجملة من التحديات، لن تقف أمام هذا النمو المتصاعد، بل ربما هذه السلوكيات الأمريكية ستولد الاقتناع لدى الصين أولاً بضرورة الاستمرار في نهجها التطوري. ومن جانب آخر يكرس القناعة بين الصين وباقي الدول المناوئة لواشنطن لتطوير إمكاناتهم التكنولوجية بما يخدم مشروعهم في تغيير شكل وطبيعة النظام الدولي في كل المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية وحتى الاجتماعية، فالسيطرة على التكنولوجيا بات السيطرة على العالم.