الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

قدكِ المياس

سلوى عباس

بكل بهائها وجلالها حضرت حلب في ذكرى انتصارها على الإرهاب، انتصار متوّج هذا العام بإعلان منظمة اليونسكو القدود الحلبية ضمن لائحة التراث العالمي، فاجتمع أبناء حلب أمام قلعة مدينتهم الشامخة يحتفلون بهذه المناسبة تعبيراً عن عظمة فن الطرب الحلبي وعراقته، وصوت الفنان الراحل صباح فخري يردّد “قدك المياس ياعمري” ليردّ عليه أديب الدايخ “بلّغوها إذا أتيتم حماها أني مت في الغرام فداها”، إلى عبود بشير بقدوده الحلبية وشادي جميل بمواويله، ليلاقيهم حمام خيري ونهاد نجار وصفوان العابد والكبيرة الراحلة ميادة بسيليس تشدو بصوتها لحلب: (مشتاقة أنا أغمر كل حجار الفيك وعمّرها من جديد.. مشتاقة أنا ارجع خلي القلعة تضوي، وبعرف أنو العمر الجاي بعزك رح بيزيد)، وقد سجّل الحلبيون بصمة تُحسب لهم في وقت تحتاج فيه سورية للجميع متكاتفين يداً بيد لبلسمة الجراح، وحمل الرسالة بوجهيها الإنساني والفني، فأثبتوا بحق أنهم أصحاب مواقف يكلّلها حبهم لوطنهم ولمدينتهم، وإدراكهم لمسؤولياتهم وهدهدة الأرواح المثقلة بالألم.

حلب التي استفاقت في ذلك اليوم على نسائم الثقافة والفن وهي المتوّجة سيدة للعراقة والحضارة، تعجن الخبز لأبنائها وترسم لقلوبهم لحظات توهجها وتزينها ببوح الياسمين فيعشقونها ويكتشفون فيها أمكنتهم وملكوتهم الصغير، يتوقون لنشاطات وفعاليات تتجسّد واقعاً من حلم وجمال، وحيث يتبدى هذا الحلم يسقط الضوء عن النجوم، وتورق أشجار الزيتون بقصائد لقاءاتهم، هذه اللقاءات التي تترجم حالة من التلاقي الفكري والفني، حيث بدا الكل معنيين بالمشاركة بالحدث الكبير والجميل، وهذه أيضاً ميزة تُحسب لأبناء هذه المدينة الجميلة المشرقة بالحب، الذين أرادوا أن يرسموا من وحي هذه المناسبة مكانهم على خارطة الثقافة، وأن يعبّروا عن انتمائهم لمدينتهم التي هي جزء صغير من انتمائهم الأكبر لسوريتهم، واليوم بما يعيشه أبناء حلب من مجد ثقافي يترجمون مع أبناء سورية كلها العهد الذي قطعوه للشهداء أن يكونوا أوفياء لرسالتهم، ويحتفون بهم بفرح القلب وألق الذاكرة، لأن أعناقهم مطوقة بياسمين طهارتهم فيرسمون فضاءات تليق بنقاء بياضهم.

تضمّن قرار منظمة اليونسكو وضمن اجتماع الدورة السادسة عشرة للجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي في فرنسا الذي عقد مؤخراً “أن لجنة التقييم تثني على ملف القدود الحلبية وما قدمه من إبراز لأهمية التراث اللامادي وقدرته على تزويد المجتمعات بمصادر الصمود وتعزيز بناء السلام والحوار بين المجتمعات”.

والقدود الحلبية هي خليط من الموشحات الأندلسية والأعجمية والأغاني الشعبية نشأت في الأندلس ومن ثم انتقلت إلى بلاد الشام، وخاصة حلب التي عرف عن أهلها اهتمامهم بالموسيقا والفنون، إذ تمّ تسميتها بالقدود الحلبية نسبة إلى حلب التي اهتمّت وتميّزت بها، كما أنها ساهمت بشكل كبير في المحافظة على التراث الموسيقي العربي، حيث ساهم تغيير الموضوعات بانتشار أكبر لألحانها مما أدى إلى ثبات الألحان الأصيلة في الذاكرة الشعبية، وكما هو معروف أن القدود الحلبية عرفت منذ زمن القس السرياني مار أفرام 306م الذي دعا الناس وعمل على ترغيبهم للحضور إلى الكنيسة وإدراج الألحان الدينية التي يألفونها في طقوس يوم الأحد، ومن ضمنها كانت انطلاقة القدود التي كان لها منذ القدم شأن كبير بفنون الموسيقا واحتلت مساحة كبيرة من حياة أهلها، لذلك استحقت عن جدارة أن يطلق عليها عاصمة الموسيقا، وفي العصر الحديث كانت حلب مركز اختبار وامتحان لكبار رواد الموسيقا والغناء في عالمنا العربي، فأخذ الملحنون والموسيقيون من فنون حلب الكثير، وكان من أشهر المواويل والأغاني وأنواع الموسيقا “القدود الحلبية”.