مجلة البعث الأسبوعية

على وقع موجة التضخم العالمي وإجراءات غير محسومة النتائج صعوبات جديد طارئة تواجه الاقتصاد والصناعة المحلية…

دمشق – رامي سلوم

انعكست تأثيرات التضخم العالمي على المخرجات الصناعية المحلية بزيادة تصل إلى 20 % بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج والمواد الأولية المستوردة، مشيرين إلى أن السوق الصناعية السورية دخلت في مرحلة “الجمود التضخمي”، في الوقت الذي تشهد فيه الدول الصناعية الكبرى في العالم موجة تضخم وارتفاع أسعار، يزداد خطرها على الواقع الاقتصادي المحلي المتردي أساسا، والتي انعكست بحصول موجات جديدة من الارتفاعات السعرية للسلع والمواد الاساسية في الأسواق المحلية، في وقت لم تعد القدرة الشرائية للمستهلكين السوريين قادرة على احتواء هذه الارتدادات السعرية؛ هذا ما أكد صناعيون لـ”البعث”، مبينين أن نسبة التضخم إلى وصلت إلى حدود 4.5% داخل مجموعة الدول العشرين، التي تشكل 80%  من الناتج المحلي الخام في العالم، كما ارتفع مؤشر سعر الإنتاج وفقا لتقارير رسمية صادرة عن الصين الأسبوع الماضي، بمعدل 10.7% الشهر الماضي، وهو المؤشر الذي يستخدم لقياس كلفة البضائع التي تباع للشركات، ما يعتبر مؤشرا خطرا على حجم تأثير مستويات التضخم المرتفعة على الأسعار وكلف الإنتاج المحلي.

ووصل التضخم في العالم إلى مستويات قياسية خلال الفترة الأخيرة حيث تضخمت أسعار الأغذية ومواد البناء بوصفها سلعا أساسية بين 30 – 100%، كما تجاوزت معدلات تضخم أسعار الخضراوات والحبوب نسبة 15 – 20% في متوسط حسابي لأسعار الدول المنتجة،  وبلغ مستوى التضخم الإجمالي بين 5 – 7% مع حالة عدم يقين حول مستقبل التضخم الذي سيبقى ثابتا أو سيزيد في الفترات المقبلة.

السياسات الحكومية

 

وفي الوقت الذي أكد فيه خبراء اقتصاديون الكلفة الكبيرة لفشل السياسات الحكومية، والتي يتم تحميلها تاليا للاقتصاد والاقتصاديين، لتعود لتقع بشكل طبيعي على كاهل المواطن، وتزيد مستوى انحناء ظهره المعيشي مع انحناء المستوى البياني لقدرته الشرائية، أشار صناعيون بدورهم إلى أن التضخم العالمي انعكس بشراسة على واقع الاقتصاد السوري من خلال زيادة كلف مستلزمات الإنتاج بنحو 10 – 20% وفقا لنوع المادة، ومدى تداخل متطلبات الإنتاج، المستوردة فيها.

 

تضخم غير مسبوق

كما لفت صناعيون، إلى أن واقع عدم توافر حوامل الطاقة، وعدم تأمينها من قبل الجهات المعنية على الرغم من رفع أسعار ما يسمى بالمازوت الصناعي إلى 1700 ليرة سورية لليتر الواحد، واختفاء التيار الكهربائي، وارتفاع أجور الشحن والنقل المحلية إضافة للعالمية، هي جميعها أسباب أدت إلى وصول موجة التضخم لحدود لا مثيل لها.

وتابعوا أن واقع موجة التضخم الأخيرة، أدى لفقدان مواد أولية من السوق، وبالتالي فقدان المواد المصنعة التي تعتمد عليها، في ظل موجة كساد وصفوها بالمخيفة في بعض السلع والمواد بسبب ارتفاع أسعارها وعدم ملاءمتها للقدرة الشرائية للمواطنين الذين تجاهلوها بشكل تام، لافتين إلى وجود تكاليف خفية تتمثل في المحسوبيات وما يسمى منظومة الفساد المتحكمة في الواقع الاقتصادي الصناعي.

جمود تضخمي “كساد”

ووصف الصناعي تيسير دركلت الواقع الحالي بمرحلة الجمود التضخمي، متوقعا أن يكون التأثير التضخمي العالمي على السوق المحلية بحدود نسبة 20%، مبينا أن المستهلكين استغنوا عن شراء الكثير من المنتجات، أو استعاضوا عنها ببدائل أخرى، ما أوقف صناعتها بشكل عام، لارتفاع تكاليفها الإنتاجية الأمر الذي لا يسمح بتخفيض أسعارها، لافتاً إلى أن تلك المواد تعتبر خاسرة استثماريا بسبب المدة الطويلة لبقائها في السوق وعدم اكتمال الدورة المالية، فضلا عن هامش ربحيتها البسيط للغاية.

دركلت أكد أن المازوت الصناعي والذي تم رفع سعره إلى 1700 ليرة سورية لليتر الواحد استمرارا لتوافر المادة، لم يتم تأمينه بالصورة اللازمة ووفقا للمخصصات، مبينا أنه تم توزيع الدفعة الأولى من المستحقات، ليتم قطعها لاحقا، والعودة للاستعانة بالسوق السوداء في ظل ظروف عدم توافر التيار الكهربائي بشكل شبه كامل، لافتا إلى أن التأثير المحدود لأسعار المحروقات في الوقت الحالي يعود إلى توقف الإنتاج بفعل الكساد، وعدم الحاجة لحوامل طاقة إضافية بفعل التباطؤ الاقتصادي.

وأشار دركلت، إلى أن مستويات التضخم العالمي التي تقترب من 7%، فضلا عن تضاعف أسعار المستهلكين بالنسبة للمواد الغذائية في العالم، وارتفاع أجور الشحن من 1800 دولار للحاوية الواحد من الصين، إلى نحو 12 ألف دولار للحاوية جميعها ستؤثر بشكل بالغ على الواقع الصناعي، فضلا عن فقدان المواد الأولوية بفعل القرارات الأخيرة الخاصة بالاستيراد، ما زاد من احتكار تلك المواد ومضاعفة أسعارها في المستودعات التي تحتفظ بكميات منها لندرتها في السوق، وطريقة جباية الرسوم والضرائب، مع الإقرار بأحقية الدولة بها.

قرارات معيقة

وأضاف، أنه ومع كل ما سبق، لا تزال القرارات الحكومية تشكل عائقا بدلا من أن تكون دافعا للصناعة المحلية، من حيث مدد انتظار الحاويات في الموانئ بانتظار الحصول على ورقة لتخليصها، مطالبا الحكومة بتسهيلات إدارية كبيرة وتبسيط الإجراءات للحد من آثار الواقع الحالي على الصناعيين، فالسوق وإجراءاتها غير سوية بسبب واقع الحرب والحصار، وهو ما يفرض تعاملا خاصا مع الواقع الخاص.

الأزمة ليست مالية

ووفقا لخبراء اقتصاديين، فإن أزمة التضخم الأخيرة لا تتعلق بالقطاع المالي وحده، على الرغم من كونه واحدا من الأسباب العامة التي أدت لطغيان النموذج الاستهلاكي، بل تتعلق في بنيتها الأساسية بنقص حاد في توافر السلع والخدمات، ما سيجعل حتى الدول التي تمتلك الأموال تلاقي صعوبات في الحصول على المواد واستيرادها.

وتشهد الاقتصاديات الضعيفة والقوية على حد سواء، ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات التضخم، وصفها الاقتصاديون بالأسرع منذ الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008، بسبب حزم المساعدات التي ضخّتها الحكومات العالمية في أسواقها المحلية والتي تجاوزت قيمتها الإجمالية تريليونات الدولارات بهدف مواجهة تحديات جائحة كورونا التي كانت كفيلة بتدمير كبرى الاقتصاديات العالمية.

تضاعفات..وكلف خفية

وفي الوقت الذي تشهد فيه دول العالم ارتفاعا في نسب التضخم، وأسعار السلع والخدمات، تضاعفت أجور النقل المحلي عدداً من المرات بين المحافظات، وزادت الكلف الخفية الخاصة بحركة البضائع والسماح بمرورها بسلاسة مع كونها بضائع نظامية، إضافة لارتفاع التكاليف المعيشية ما زاد من نسب الأرباح الموضوعة على الكلفة من قبل التجار والصناعيين، والتي تمت إضافتها لتلبي كلف المعيشة المتزايدة، فضلا عن الارتفاعات التلقائية الناتجة عن الزيادة في كلف تشغيل الآليات، وإيجار المستودعات والمنافذ، وكلف الصيانة، وحوامل الطاقة، وأجور العمالة وغيرها، حيث ارتفعت أجور العمالة المياومة بنحو 100% على أقل تقدير.

مغالاة..!

الصناعي عاطف طيفور، وعلى الرغم من إقراره بواقع التضخم العالمي وتأثيراته، وصف الحديث عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتوقع موجة تضخمية جديدة من البعض، بالمبالغة، لافتاَ إلى أن التضخم شمل مواد محددة بينما لم تتأثر مواد أخرى، غير أن بعض العاملين في السوق المحلية يلتقطون الأخبار والتوقعات ويجعلونها وسيلة لتبرير رفع الأسعار وتحقيق أرباح غير واقعية، مبينا أن تأثيرات التضخم العالمي يجب أن تتم دراستها وفقا لكل مادة على حدة.

ولفت طيفور، إلى أن تجارا وصناعيين يشيعون معلومات مغلوطة عن ارتفاعات كلف النقل التي أقر بأنها تضاعفت لنحو عشر مرات، غير أن هذا الارتفاع جاء على مراحل بدءاً من الربع الأول من العام 2020 بداية انتشار فايروس كورونا، حيث كان وقتها سعر شحن الحاوية يقدر بنحو 1800 دولار من الصين، غير أنه وصل إلى مستوى 7800 دولار في شهر نيسان الماضي، وعلى الرغم من ارتفاعه إلى نحو 12 ألف دولار، فإن تلك النسبة تشكل مالا يزيد على 40% من آخر سعر لتكلفة الشحن، وذلك من الصين وحدها بينما تنخفض أسعار الشحن من دول أقرب، فضلا عن مستوى تداخل كلف الشحن في الإنتاج، أو المنتج بشكل عام وفقا لكتلة المنتج ووزنه وغيرها، والتي لابد من دراستها وفقا لكل منتج على حدة.

يضر بالاقتصاد..

طيفور اعتبر أن المغالاة في تقدير قيم تأثير التضخم العالمي الواقعي وتأثيره على السوق المحلية يضر بالواقع الاقتصادي، مبينا أن غالبية التجار كانوا يحصلون على الدولار للاستيراد من السوق السوداء وبأرقام مرتفعة وفقا لقدرتهم على تأمين المبالغ المطلوبة وذلك بالنسبة للسلع غير الأساسية وغير الممولة بالدولار المدعوم من المصرف المركزي، وأن الإجراءات التي قننت حصول التجار على الدولار من المصرف المركزي بسعر يقل عن سعر السوق السوداء، رفع أسعار السلع بدوره، على الرغم من توافر الدولار أولا للتجار، وحصولهم عليه بسعر أقل بنحو 150 ليرة سورية، غير أن البعض التقط القرار ليجعله ذريعة لرفع أسعاره.

استغراب..!

ولفت طيفور إلى أن تسعير المواد المصنعة اليوم يتم في أطر صحيحة حيث تعمل الجهات الرسمية على احتساب حوامل الطاقة والدولار وفقا للأسعار الصحيحة في السوق، فضلا عن إضافة كلف المواد الأولية بناء على أرقام الاستيراد الحقيقية وإضافة أرباح عادلة عليها، وأن أي زيادة على تلك الأسعار تعتبر تربحا إضافيا.

وعبر طيفور عن استغرابه من قدرة الشركات والصناعيين على الاستمرار في حال صحة نسب الارتفاعات المتتالية للأسعار والتي تصل في أقلها إلى 30% وتزيد على 50% في كل مرة وفقا للذرائع، بينما أدت مستويات التضخم التي يقدر أعلاها في العالم بنحو 7% إلى إغلاقات وإفلاسات وتوقف شركات دولية معروفة عن الإنتاج، ما يؤكد أن الأرقام التي يعلنها بعض الراغبين في تحقيق الاستفادة الإضافية عن كلف الإنتاج غير واقعية، وأن واقع العمل الاقتصادي ليس صحيحا.

مواجهة صعبة

ويتوقع صندوق النقد الدولي معدلات تضخم في مصر والجزائر وتونس والسودان بنسب تتراوح بين 6 وأكثر من 10% العام الجاري، ونسب تضخم تتراوح بين 18 – 31% في الدول العربية التي تعاني أزمات سياسية على حد وصف الصندوق مثل اليمن وليبيا،  أما في لبنان وسوريا فقد وصل التضخم إلى مستويات مفرطة تراوحت بين 50 و 100% خلال عام 2020 على صعيد السلع التي لا تدعمها الدولة أو رفعت عنها الدعم، وهو ما يشكل مخاطرة كبرى لأي زيادة تضخمية في ظل عدم مواكبة مستويات الدخل لتلك الزيادات.

أما مواجهة التضخم والحد من ارتفاعه في الدول العربية فمسألة أكثر تعقيدا، وفقا لخبراء اقتصاديين، لأنه مرتبط بضعف بنية الإنتاج والخدمات المحلية والاعتماد على الاستيراد وقلة مصادر الدخل أو هيمنة عائدات النفط الخام عليها أكثر من ارتباطه بالسياسات المالية.

ومن هذه النظرة، فإن ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ينعكس بشكل مباشر وأقسى على الأسواق العربية التي تعاني بدورها  من تراجع القوة الشرائية وارتفاع معدلات البطالة وغياب الحد الأدنى لأجور العاملين لدى الدولة التي لا تزال رب العمل الأول والرئيسي في غالبية الدول العربية.

ويرى الخبراء، أن مواجهة كل تلك التحديات تكمن في تنويع بنية الإنتاج المحلي وتعزيزه بشكل يتزامن مع تغيير في العادات الاستهلاكية التي تستنسخ نماذج الاستهلاك الغريبة عن المجتمعات العربية.

 

ضَرب الأسواق العربية

ضرب التضخم وزيادة الأسعار القسم الأكبر من الأسواق العربية بقوة كونها من أكثر أسواق الدول النامية ارتباطا بالتجارة العالمية التي ارتفعت تكاليفها، وهو الأمر الذي يعكس اعتماد غالبيتها في توفير سلعها الأساسية على الاستيراد بنسبة تزيد على 50 %.

وقد أدى تراجع أسعار النفط والمواد الأولية التي تشكل ما يزيد على 70% من الصادرات في دول عربية، إلى ارتفاع العجز المزمن في الموازنات الحكومية والموازين التجارية، إضافة إلى تراكم المديونية التي زاد حجمها في بلد كلبنان على 150 % من الناتج المحلي الإجمالي، في حين وصلت هذه النسبة إلى نحو 90 % في الأردن خلال العام الماضي، وفقا لتقارير منظمات تجارية دولية، وهو الأمر الذي قلص من الاحتياطات النقدية بالعملات الصعبة وأدى إلى تراجع قيمة العملة الوطنية كما هو عليه الحال أيضا في بلدان مثل العراق والجزائر.

وفي تونس أدى تراجع السياحة كأحد القطاعات الرئيسية في البلاد بشكل دراماتيكي إلى نتائج مماثلة، أما دول الخليج فقد اضطرت إلى زيادة سحوباتها من احتياطاتها المالية لسد العجز في موازناتها والاستمرار في دعم أسعار السلع الأساسية ولو بشكل أقل من قبل لمنع تدهور القوة الشرائية، وفي الدول العربية الأخرى شهد هذا الدعم تراجعا أكبر بحيث أضحى متركزا على الخبز والزيت والأرز.

الأفضل للمواجهة محلياً..

في إطار ما سبق، اعتبر الصناعي أسامة زيود، أن الإجراءات الحكومية السلبية شريك أساسي في رفع مستوى التضخم المحلي، لافتا إلى أن القرارات الحكومية أدت إلى تحجيم القطاع الصناعي وإضعافه، فضلا عن التذبذب والبلبلة من خلال تضارب القرارات المتتالية، وتنفيذها في وقت إصدارها بينما تكون بعض الشحنات في طريقها للوصول إلى الموانئ السورية ما يعرقل تخريجها بناءً على القرارات.

واعتبر أن أفضل طريقة لمواجهة التضخم هو توفير بيئة صحية للصناعة ودعم تصدير المنتجات، ورفد الخزينة بالقطع الأجنبي، الأمر الذي سيرفع من القدرة الشرائية للمواطنين، وينسف تبعات التضخم الحالية، خصوصا أن تأثيراتها الحقيقية ناتجة عن تآكل القدرة الشرائية للمواطنين عبر سنوات، وليست وليدة هجمة تضخمية واحدة.

إجراءات متباينة وتحديات..!

وفي الختام، تضاربت ردات فعل المراكز المالية العالمية على أزمة التضخم الحاصلة، ما يشير إلى عدم وجود رأي موحد أو حلول واضحة للواقع الحالي الذي قد يستمر، خصوصا في حال وقوع اقتصاديات كبرى في أخطاء فادحة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي إجمالا، حيث قرر الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة على الودائع، الأمر الذي يعني ميلا لرفع قيمة الدولار الشرائية، على حساب الإنتاج والاستثمار، الأمر الذي ستلحق به تلقائيا الدول الخليجية وغيرها من الدول المرتبطة بالدولار في تعاملاتها المالية منعا لفجوة الإقراض والودائع، وتفريغ بنوكها من الأموال لصالح الأرباح المحققة في البنوك الأمريكية صاحبة الفوائد المرتفعة.

وفي الوقت نفسه، اعتمدت البنوك المركزية الأوروبية نظرة مغايرة تماما حيث خفضت الفائدة على الودائع إلى مستوى 0.5%، وهو ما يعني دفعا من قبل هذه البنوك لزيادة عملية الإنتاج، بوصفها حلا لواقع تقلص البضائع، غير أن كلف الإنتاج الحالية وتسويق المنتجات تشكل تحديا لتلك السياسة.