مجلة البعث الأسبوعية

رغم أن وجوده الحالي أقرب ما يكون إلى العدم.. إعادة النظر بملف الدعم تستفز الشارع وتثير حنقه..!.

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

يثير الحديث عن الدعم هذه الأيام حفيظة الشارع السوري إلى درجة غير مسبوقة من الحنق والاستفزاز، ولاسيما في ظل -ليس تقهقر الدخل- بل شبه انعدام مجاراته للحد الأدنى من المعيشة، وما تعالي الصيحات المطالبة بوضع حدٍ لما يعانيه المواطن من ضنك العيش إلا مؤشر خطير ينبئ بأن القادم أسوأ..!.

لها مبرراتها

للحكومة مبرراتها في إعادة هيكلة الدعم -كما يحلو لها التسمية- إذ أنها تتحدث عن ما يزيد 5 تريليون ليرة قيمة فاتورة الدعم السنوية من الموازنة العامة للدولة، وهو في حقيقة الأمر مبلغ لا يستهان به، ويتوجب إعادة النظر بانسيابه لضمان وصوله إلى مستحقيه على أقل تقدير، وقد يكون ذلك بالتوازي إما مع تقليص هذا المبلغ إلى حد معين، أو مع توفير جزء منه -في أحسن الحالات- جراء تحرير أسعار السلع والخدمات المقدمة للشرائح المدرجة على قائمة الاستبعاد من الدعم.

نظرة سائدة

إذا ما تناولنا ملف الدعم كحزمة متكاملة تتضمن المواد الغذائية من “خبز وسكر ورز..إلخ”، وخدمات من “كهرباء وتعليم وصحة”، وحوامل الطاقة من “غاز ومازوت وفيول وبنزين”، فإننا نجد أن النظرة العامة والسائدة حالياً لهذا الملف، أن وجوده أقرب ما يكون إلى العدم بالنسبة للشرائح المستهدفة، إذ أن جودة المواد الغذائية –في حال توفرها-  ليست بالمستوى المطلوب، والخدمات المدعومة شبه غائبة ولاسيما الكهرباء، والتعليم في المدارس في أسوأ حالاته في ظل نقص الكادر التدريسي المؤهل في أغلب المدارس.

وإذا ما تطرقنا إلى واقع المشافي وتغني المعنيين بتدني الأجور التي وصلت إلى “الرمزية”، بدليل –حسب المعنيين طبعاً- أن أجرة زرع الكلية لا يتجاوز الـ500 ألف ليرة –على سبيل المثال لا الحصر- بينما في دول الجوار يصل إلى 150 ألف دولار.. فنجد أن هذا الأمر غير متاح للكثيرين، وأن لقاحات وأدوية مضادة مثل داء الكلب ولسعات الأفاعي، ليست متوفرة إلا بحدود دنيا، وهذا كله مشمول بفاتورة الدعم المجانية..!

أما الحديث عن حوامل الطاقة فحدث ولا حرج، ويكفي أن نستشهد بتخصيص 50 ليتر من مازوت التدفئة لكل أسرة، حتى نبين مدى هزالة ما يصل من دعم تتجاوز فاتورته حاجز الـ5 تريليون ليرة كما أسلفنا، ما ولّد بالنتيجة لدى الشريحة المستهدفة انطباعاً بأن وجوده بالفعل أقرب ما يكون إلى العدم، مع الإشارة إلى أن الدعم موجود في كل دول العالم، وخاصة في قطاعي الصحة والتعليم، فالأول لدى هذه الدول مفعّل عبر التأمين الصحي الذي لا يزال في بلادنا يكاد لا يذكر لا من جهة القيمة، ولا من جهة الحصول عليه من قبل مزودي الخدمة، في حين أن الثاني –أي التعليم- فمسألة الجودة تتصدر فيه الأولوية القصوى في بقية -أو بالأحرى- أغلب دول العالم، نظراً لقناعتها وإدراكها أن الاستثمار بالبشر هو الاستثمار الأمثل.

منطقي بلا شك

لا شك أن ما عرضناه من معطيات مؤشرات سريعة، تندرج في خانة المنطق الذي دفع بالحكومة إلى إعادة النظر بموضوع الدعم ككل، إذ ليس من المعقول أن يزاحم يُصنف في خانة “الدخل المفتوح” من رجال أعمال أو تجار من الصف الأول وما شابه، من يُصنف دخله في خانة “المحدود” على مبلغ “200 ليرة سورية” كسعر لربطة خبز، أو “500 ليرة” كسعر لمازوت التدفئة وما إلى ذلك.. وهنا يستوجب التنويه إلى أن إحدى الدراسات تؤكد أن استهلاك الفرد في العشر الأغنى من السكان “أي ما نسبة 10%”، يصل إلى 50 ضعف استهلاك الفرد في العشر الأفقر، وبالتالي في حال رفع الدعم عن المحروقات مثلاً، فإن الأغنياء هم من سيتحملون تكلفة هذا الارتفاع لصالح إصلاح المالية العامة للدولة وإعادة توزيع الدعم بما يتناسب مع ذوي الدخل المحدود، وأصحاب الإنتاج الحقيقي مما يؤدي بالضرورة تحسين مستوى معيشتهم.

لم تنضج

في الوقت الذي نؤكد فيه أحقية هذا المنطق –إن صح التعبير- ونتفهم بالتالي وجهة النظر الحكومية ومسوغات إعادة نظرها بملف الدعم الشائك، نعتقد أن الرؤية الحكومية في هذا السياق لم تنضج بعد، بدليل رفعها لسعر مادة البنزين بنسبة فاقت الـ45%، ما يشير بشكل أو بآخر إلى أن الحكومة ربما لم تحسم خياراتها لجهة الإعلان النهائي عن شكل وآلية الدعم المقرر إعلانه في القريب العاجل، ويخشى أن يستمر الرفع التدريجي للمواد والخدمات الأساسية المدعومة، قبل هذا الإعلان المصيري، مقابل عدم الإيتاء بأية خطوة أو محاولة ناجعة لتحسين المستوى المعيشي المتدهور أصلاً..!.

منذ عقود

إذا ما سلمنا أن المؤتمر الصحفي لوزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم منذ أسابيع، كان أشبه ما يكون بإعلان عن انحسار سياسات الدعم الحكومي، إلا أن إرهاصات هذا الانحسار –والتي سبق لنا وأن أشرنا إليها بأكثر من مناسبة- تعود حقيقةً لعقود ما قبل دخول نائب رئيس مجلس الوزراء عبد الله الدردري المعروف بعراب السياسة النيو الليبرالية في سورية على خط إحلال هذه السياسة وإطلاق العنان للقطاع الخاص…!.

قبل الدخول في تفاصيل مؤشرات هذا الانحسار لا بد من التنويه إلى أنه ووفقاً للمؤشرات التي سنذكرها لاحقاً بأن رفع الدعم تدريجياً – على ما يبدو-  جاء إثر تدخلات خارجية غير مباشرة أحياناً، ونتيجة يعود للظروف الإقليمية والعالمية وانعكاسها على الوضع المحلي أحياناً أخرى، ولكنها في المحصلة لها علاقة بالخارج بشكل أو بآخر..!.

أبرزها

لعل من أبرز هذه المؤشرات الدالة على التدخل الخارجي لرفع الدعم يتمثل بالتمويل الخارجي لمشاريع تنموية في الداخل، ونذكر هنا أنه لدى سؤالنا ذات مرة إحدى الشخصيات المصرفية التي تولت مفصلاً مهماً له علاقة بتمويل الاتحاد الأوروبي للمشروعات المتوسطة والصغيرة حول دافع الاتحاد  لتمويل مشروعات لن تعود عليه بأية منفعة أو مصلحة –على الأقل في المديين المنظور والمتوسط- وإنما من سيجني ثمارها هو الاقتصاد الوطني ككل.. والحديث هنا يرجع إلى ما قبل الأزمة…أجاب: إن الدول الغربية المنضوية تحت المظلة الليبرالية، تصبو لتقليص دور الحكومة في مفاصل وثنايا الاقتصاد الوطني في الدول النامية، كخطوة نحو انحسار الدعم الحكومي والحد قدر المستطاع من الدور الأبوي للدولة، من خلال تمكين القطاع الخاص وإتاحة المجال أمامه ليتمدد شيئاً فشيئاً عسى أن يحكم قبضته في نهاية المطاف على الأركان الرئيسة للاقتصاد، ليصار بالنتيجة لفتح خطوط وقنوات تواصل بين دول الاتحاد ورجالات الخاص ورموزه المتحكمين بالاقتصاد، ليقوم الطرف الأول بتسيير الثاني وفق مسارات اقتصادية مُسيَّسة، تخدم مصالح الأول في جميع المجالات.

نشير هنا إلى أن الحكومة استمرأت هذا التمويل وسهلت انسيابه إلى شرايين الاقتصاد الوطني علماً أن الاتفاقية الأولى مع مصرف الاستثمار الأوروبي الذي يشكل الذراع المالي للاتحاد الأوروبي كانت 40 مليون والثانية 80 مليون، ووصلت قيمة الثالثة التي لم تنفذ بسبب العقوبات إلى 300 مليون يورو..!. وللتوضيح لا ندين الحكومة باستساغتها لمثل هذه الاتفاقيات المغرية، ولكن ما يؤخذ عليها حينها يتمثل بإتمانها لخبراء المصرف الأوروبي الذين تعرفوا على نقاط القوة والضعف في الاقتصاد السوري، ما أثار وقتها الشكوك بإعداد دراسات حول حيثيات الاقتصاد السوري ليصار تزويدها ربما لبعض الجهات التي لها مصلحة باستهداف الاقتصاد السوري، من خلال تهميش دور الدولة والحد من سياسات الدعم سواء الموجهة للجانب الاجتماعي، أم تلك الموجهة للقطاع الإنتاجي ..!.

قصة أخرى

وفي ذات السياق نسرد قصة أخرى ذكرها لنا وزير سابق تعطي مؤشراً أيضاً للتدخل الخارجي لرفع الدعم الحكومي مفادها.. أنه عندما التقى بعثة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ذات مرة قال لهم: أنتم تدهورون الحكومة السورية وتغشوها بتوصياتكم بإعطاء الدعم النقدي للمواطنين أي الدعم من أجل الاستهلاك وليس من أجل الإنتاج، وعندها وزعت الحكومة معونة مالية لشراء المازوت، بينما كان الأجدى لها أن تدعم الإنتاج وليس الاستهلاك، عبر تمويل الفلاحين – على سبيل المثال – بقروض ميسرة وشراء منتجاتهم بأسعار مدعومة، وبذلك نضمن ألا يغادر الفلاح أرضه وبنفس الوقت نزيد من إنتاجنا الزراعي..!.

الزخم هو المطلوب

لضمان استمرار صمود الدولة والحفاظ على سياساتها المسخرة للدعم يتوجب على الحكومة إعطاء زخم أكبر للعملية الإنتاجية، ونعتقد أيضاً أنها باتت تمتلك أدوات فعالة بهذا الخصوص كـ”هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومؤسسة ضمان مخاطر القروض” فورش الظل نواة حقيقية لهذه المشروعات في حال تم حُسن التعاطي معها ودعمها لإخراجها إلى النور، ولنا أن نتصور انعكاس إنتاجها على الاقتصاد الوطني وعلى الخزينة العامة للدولة إذا ما علمنا أن هذه الورش تغطي معظم الجغرافيا السورية..!.

جدير بالاهتمام ولكن..!.

وفيما يتعلق بمبلغ الدعم …لاشك أنه كبير وجدير بالاهتمام، ويوحي للوهلة الأولى بأنه كفيل بامتصاص أي هزة اقتصادية مهما تعاظمت –إن صح التعبير – إلى أدنى درجاتها، لكن حقيقة الأمر فإن المواطن لم يشعر بانعكاس هذه الرقم على حيثياته المعيشية، بل على العكس تماماً يصطدم على مدار الشهر –إن لم نقل اليوم- بواقع تضخم استهلك الرواتب والأجور بعد أن أضحت لا تغطي أياماً ثلاث على أحسن تقدير..!.

لا ننكر

بالطبع لا ننكر بأن  الدعم لا يزال ضمن أولويات الحكومة رغم كل الظروف التي يمر بها الاقتصاد الوطني، من عقوبات خارجية، وتوقّف كثير من المنشآت الإنتاجية العامة والخاصة، وتراجع الاحتياطي النقدي..الخ، لكن سر عدم تلمس هذا الدعم كما يجب، يكمن بتسربه عبر أقنية المتاجرين به، بدءاً من المستجّرين غير الشرعيين للكهرباء، مروراً بالمتعدّين على المواد التموينية المقنّنة للمتاجرة وبالمتلاعبين  بدفاتر مدخلات ومخرجات الأدوية في المشافي، وليس انتهاء باللا مبالين في القطاع التربوي بغية فتح منافذ لهم في مجال الدروس الخصوصية..الخ. وبالتالي فإن سبب انتفاء أي أثر لدعم المواطن وفق الخطط الموضوعة والإمكانيات المتاحة يعود لتعثر انسياب الـ5 تريليون ليرة في أقنيتها الطبيعية..!.