ثقافةصحيفة البعث

أحمد الغريب: قلعة حلب مفتاح الشموس وروح الرموز

يتمتّع أهالي حلب بإحساس متفرّد لأنهم يشمخون بآثار مدينتهم العريقة، خصوصاً، القلعة التي يتحلقون حولها وكأنهم يتحلقون حول أسطورة تأريخية، فيتنزهون، ويتمشون، ويتحادثون، وهي تصغي لخطواتهم وأنفاسهم وهمومهم وآلامهم وآمالهم، وكأنها الأم الحنون التي تحضن أبناءها وأحفادها وتمنحهم القوة والطاقة والتفاؤل، فيشعرون بقوتها المغناطيسية الجاذبة المتشابهة مع مغناطيس الزمان، وهو يجذب الأزمنة فتتراكم الحقب والعصور وكأنها لحظة واحدة، ويا سعدَ من يمرّ بأنفاقها ليخرج من الجهة المقابلة للشمس.

وهكذا، ومن الجهة المقابلة للشمس، خرجت، وصعدت درجات الباب الرئيسي لهذه القلعة الأبدية، وكان مديرها أحمد الغريب يستقبلني على هذا الدرج العريق، بينما الأعشاب والنباتات الربيعية تمدّ أكفها لتستزيد من عبق التأريخ وذكريات الحجارة وغيوم البشارة، وبينما الطقس يمارس هواياته على هذا الوجود، صعدنا مزيداً من الدرج الذي يرفرف عليه العلم السوري بنجمتيه الخضراوين محدقاً كعادته في الأعالي.

ما أجمل المشهد الأثري من هذه النقطة المرتفعة عن الأرض، ما أجمله وهو وأطيافه يتمايلون مثل أغصان قوس قزح المزهرة بأرواح الشهداء والحضارات المختلفة والثقافات الإنسانية، وكان أن وصلنا إلى غرفة أحمد الغريب مدير القلعة المصاب بعشقها ورموزها وفنونها وأحوالها البازغة كلحظة هي كل الزمان. عاشق لتأريخ وحضارة سورية كونها صفحة مهمّة من صفحات التراث الإنساني والتي صدّرت الإشعاع الحضاري إلى الدنيا.

بهذا العشق الخالد لوطننا سورية وآثارها، وبهذه الكلمات التي أخبرنا بها عن نفسه، انطلق حوارنا مع المهندس والفنان التشكيلي أحمد الغريب مدير قلعة حلب، وأكمل: وهذا مصدر اعتزازي وفخري كوني أعمل في هذا المجال منذ أكثر من ثلاثين سنة، ودائماً، عملي بحالة بحث مستمر عن الجذور الحضارية، وإسقاط التأريخ على الآثار بحالة علمية وتشخيص معرفي مستنداً إلى مراجع علمية ثقة.

أمّا عن كيفية التشابك ما بين الفنان الذي بداخله والإنسان وذاكرة المكان الأثرية، فأجابنا: فنان تشكيلي ورسام وخطاط، وتحصيلي العلمي في الرسم الهندسي- جامعة حلب، وهذا الأمر تفاعل بشكل كبير من خلال العمل في الآثار، كون الآثار هي عمارة بلباس تأريخي، وهذه العمارة يتخلّلها الكثير من التنوع الخصب للزخارف والرموز والتخطيط العمراني.

سرّ بين متحف المعرة والقلعة

وعن بداياته مع المعالم الأثرية، قال: كانت البداية في متحف معرة النعمان من خلال دراسة اللوحات الفسيفسائية والرموز التي رصفها الفنان السوري، والتي تنمّ عن الخلفية الثقافية والمنتج الفكري لهذا المجتمع. وتابع: ثم، كبرت الدائرة أكثر، وخرجت من نطاق المتحف إلى المدن “الميتة”، أي القرى الأثرية في الشمال السوري، وهذه المواقع تضجّ بالتأريخ والعبقرية المعمارية، والتي نوّع من صاغها بين أديرة وكنائس ومعابد ومدافن جنائزية ومنشآت اقتصادية مثل المعاصر، قمت بالدراسة بالتشارك مع العلاّمة الكبير المرحوم كامل شحادة، وكانت الدراسات لا تنتهي.

هذا العمل الأثري يعتبر جزءاً من موهبتي ودراستي في الفن التشكيلي والخط العربي، لذلك، توسم معظم أبحاثي بحالة فنية، لأن نظرتي متعدّدة الأبعاد للموقع الأثري، فهي نظرة تشمل الناحية الفنية والتأريخية والأثرية، إضافة إلى تحليل الرموز التي تكتنف المباني الأثرية.

مفتاح الرموز

وأكد الغريب: الرمز هو بالأصل نتاج ثقافي يحمل الكثير من القيم الفكرية التي اختصرها من قام بهذه الحضارة، ولدينا في قلعة حلب أمثلة كثيرة عن هذه الرمزية، مثل باب التنانين في قلعة حلب، وباب الأسدين الضاحك والباكي، ورمزيات أخرى هي قيد البحث، إضافة إلى الجوامع والمساجد والتكايا والكنائس التي سطّر عليها الباني الكثير من الرمزيات الثقافية المهمّة كجامع العادلية والبهرمية وغيرهما.

القلعة روح الإبداع

وأضاف: تضمّ مدينة حلب العديد من الأوابد والصروح الأثرية التي اعتبرت سطراً مهماً في سجل التراث الإنساني، ولعلّ أهمها قلعة حلب الدرة العالمية التي تعتبر ظاهرة عمرانية لا يمكن أن تتكرّر أبداً، خصوصاً، من خلال ما أبدع فيها بُناتها من ألغاز وحجج عمرانية بقيت على مرّ الدهر تحفظ رونقها وكرامتها، ولم يستطع أحد من غزاة العصور القديمة والحديثة الدخول إلى قلعة حلب عنوة، كما ذكر معظم المؤرّخين، وما ذلك إلاّ نتيجة الإبداع العمراني العسكري المدني الفني المتكامل، وهذا الإبداع مؤلّف من أنماط وأنساق عمرانية تميّزت بها القلعة عن كل ما سواها.

وحقيقة، لا يمثل هذه القلعة في العالم سواها لأنها لا شبيه لها، كما أنها تضمّ في حناياها العديد من الأوابد المتجذرة في عمق التأريخ، ولاسيما معبد الإله “حَدَد- هَدَد”، زوج عشتار، ومبانٍ أخرى داخل القلعة المعتبرة ظاهرة إعجازية لا تتكرّر.

المعالم في النفس

ورأى أن الطفولة والبيئة من خلال الرحلات المدرسية للمواقع الأثرية وتكرارها هي التي تؤسّس في النفس هذه المعالم وحب معرفتها والعشق لجذورها، فتولد المحبة والانتماء العظيم لهذا التأريخ المشرّف والهوية الوطنية والذاكرة البصرية التي تتحوّل مع مرور الوقت إلى فعل يصون هذه الذاكرة ويورثها ويبلور شخصية الإنسان.

واسترسل: دائماً، نؤكد على دراسة الوفود المدرسية والطلابية والجامعية، ونقوم بتقديم الشروحات حسب المستوى العمري والعلمي، ونشيد بهذه الحضارة لكي يتعلّم أبناؤنا ما فعله أجدادنا والذي يعتبر مسوغاً للاعتزاز بهذا الماضي الجميل، ولدينا في قلعة حلب مواسم لزيارة هذه الوفود، ونلاحظ كيف تتأثر الوفود الطلابية بهذه الحضارة المتقاطعة مع المناهج التربوية التي تضعها الوزارات المعنية، وهذا دور حضاري وريادي لوزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار والمتاحف بمدّ جسور المعرفة لطلابنا للتعريف بتأريخنا وتأريخ سورية الذي دائماً نعتز به ونفاخر.

الطموح المستقبلي

ولفتَ الغريب إلى متحف القلعة الذي دمّر أثناء الحرب الإرهابية الظلامية، مؤكداً: هناك طموح في إعادة ترميم هذا الموقع والذي هو بالأصل مبنى الثكنة العثمانية، وتمّ تحويله إلى متحف عام 1996، ويضمّ المكتشفات التي تمّت داخل القلعة من تيجان ولوحات كتابية وقطع أخرى من أباريق وصحون خزفية وغيرها، ولدينا طموح في قلعة حلب ومديرية الآثار، إضافة إلى أنه يتمّ التواصل المعرفي والثقافي مع كل الجهات ذات الصلة والعلاقة، ولقد قمنا بعرض لوحات لإحدى الفنانات عام 2018، ودائماً، هناك نشاطات وفعاليات مستمرة على مسرح قلعة حلب التأريخي، منها حفلات تراثية ذات صلة بتراث حلب الموسيقي، ومنها حفلات بمناسبات وطنية.

أمّا عن الطموح المستقبلي، فأخبرنا: هو طموح تفعيل محيط القلعة بفعاليات وأنشطة ثقافة وفنية وموسيقية متنوعة، مثل إقامة المعارض التشكيلية، وتقديم العروض المسرحية، وإقامة الأمسيات الأدبية والثقافية بالتعاون مع الجهات المختصة مثل اتحاد الكتّاب العرب، ومديرية الثقافة، والجمعيات المختلفة مثل جمعية العاديات والجمعية الفلكية السورية وجمعية البيئة، إضافة إلى إقامة الأمسيات الموسيقية، وذلك من أجل المزيد من الجذب الثقافي الفني الاجتماعي السياحي الذي لا بد وأن يعكس البعد الحضاري لحلب وقلعتها وتأريخها بطريقة معاصرة.

غالية خوجة