ثقافةصحيفة البعث

محمد الوهيبي في ذكراه السابعة.. رسم ومات بسلام

رحل الفنان محمد الوهيبي في برلين صيف 2017، وكان الخبر صاعقاً، فمن غير المتوقع أن يموت هذا الرجل بهذه الطريقة المفاجئة.. هو لا يعاني من مشكلات صحية، محبّ وبسيط لا شغل له في الدنيا إلا الفن والجمال وتتبع مواطن الخلق والإبداع، له حكمة خاصة ميزته بالتواضع وسعة المعرفة وغزارة الإنتاج والتنوع والبحث الدائم.

لم يكن حفاراً عادياً، مثله مثل أي فنان درس فن الغرافيك وتخرج من كلية الفنون بجامعة دمشق، بل خبر فنون التصوير ورسوم الأطفال والنحت والإعلان وفن التجهيز وبناء المفهوم في المكان، كما يحفل سجل حياته بما قضى من سنوات طويلة معلماً ومربياً في المدارس الابتدائية ومن ثم مدرساً لمادة الفنون في مدارس أبناء وبنات الشهداء.

ولد الوهيبي في فلسطين عام 1947 في وادي الحمام قضاء طبريا، عاش وأهله نكبة اللجوء في مخيم خان الشيح جنوب دمشق، وذاق مرارة الفقر والبؤس في مخيم يعيش أهله على مساعدات الأونروا، يشربون من ماء نهر الأعوج ويبنون أكواخ الطين ويرسمون حلم عودتهم على جدران بيوتهم، ويوشمون أيامهم بالأمل مثل بدوي يرسم على ماشيته رموزاً وطواطم درءاً لخطر قادم.. هم الفلسطينيون الذين يرسمون خط الدفاع عن الحياة وما زالوا.. الوهيبي هو أحد أبنائهم والذي تلمّس هذا الرسم واستعاده من أرض كنعان القديمة وقدّم للعالم رواية الفلسطيني القادمة من ينابيع الخلق العميقة، وانتصر لسلام ذاته التي تجاوزت كلّ ما هو عادي ومألوف.

يصنّف الوهيبي كأحد أهم الحفارين العرب لابتكاره طرائق تقنية جديدة في أسلوب الحفر وصناعة اللوحة بنسختها الواحدة، والتي تحمل روح فن الحفر وفلسفته كفن يتعامل مع قضايا التعبير الإنسانية بلغة حساسة فائقة، تستطيع أن تعرفنا على طيف واسع يقع بين الأسود والأبيض، يعمّق المعنى ويكشف فداحة أن تكون الحياة بلا جمال.

لم يكن فنان قضية بالمعنى الضيّق، بل كان فناناً أنتجته ضرورات قدره كواحد ورث كلّ أساطير بلاده وآلامها، فلم يكن له من خلاص إلا أن يسير على هذا الدرب متبحراً بما تنبت له البصيرة وتمليه عليه الحياة من حقوق لا يجد حيّزها من عدالة إلا في الرسم والتعبير.

بدأ طفلاً يصنع دمى من الطين ويرسم بطباشير الكلس الأبيض على طريق الإسفلت الوحيد الذي يمرّ جوار المخيم، وعلى حجارة البازلت السوداء التي تحرس بوابات البيوت الفقيرة.. هذا العالم البصري الناتج عن التناقض الحاد بين أدوات الصورة والحلم المتخيّل جعل من هذا الكائن الرسام راوياً وقاصاً وشاعراً يجول بحثاً عن لغة جديدة محرّرة من تبعية التعبئة وقولبة التعبير، وقد تفرّد عن قطيع الشعاراتيين ورافعي يافطة المضمون الأساسي المباشر للفن، فرسم فلسطين الزيتون والشهداء ونشيد الرعاة على سفوح الجليل فكانت أرض كنعان والأنبياء التي ستنتصر على حديد وجبروت الاحتلال.. رسمها مثل رواية قديمة.. سيرة شعب لا يموت، وأكدها كحق لا يموت، لأنها الجميلة مثل الحياة والاحتلال قبيح ينتهي في رماد نفسه.

أستذكر هذا الفنان الذي عاش دمشق وعشقها ورسم فيها وأحبّ أهلها: “سورية أمي وأهلي.. يا لسعادتي بما أحب”.

السلام لروحه البيضاء.

أكسم طلاع